ثلاثة سيناريوهات تحدِّد مصير النفط... وسعر محروقات لبنان وكهربائه -- Jun 19 , 2025 7
بحلول اليوم السّادس على اندلاع المواجهة الإسرائيلية – الإيرانية، بدا المشهد النفطي العالميّ وكأنه يوازن بين صدمةٍ جيوسياسية كبرى وبين قناعة الأسواق بأنّ الإمدادات المادية لم تتقلّص بعد؛ فبرغم إدخال الجانبين منشآت النفط والغاز إلى لائحة الأهداف العسكرية، لم تسجّل الأسعار "قفزةً فوق العادة"، بل اكتفت بموجة ارتفاعاتٍ حادّة سرعان ما هدأت قليلًا؛ وهو ما يفتح الباب أمام قراءةٍ تفصيليّة للتأثيرات المباشرة وغير المباشرة للحرب على أسواق الطاقة العالميّة، وعلى سوق المحروقات الهشّة في لبنان خصوصًا، حيث ترتفع الأكلاف لا بفعل الشحّ، بل بفعل علاوة الخطر والضرائب والتأمين، فضلًا عن كون لبنان البلد الصغير والخارج توًّا من حربٍ طاحنة، قد يجد نفسه أمام معادلةٍ صعبة، تضيف إلى اقتصاده المنهك أساسًا المزيد من الأزمات.
صور الميدان والتسعير بالاحتمالات
منذ فجر الجمعة الماضي دخلت منشآت النفط والغاز رسميًا في قائمة الأهداف العسكرية للطرفين، غير أنّ برميل برنت اكتفى بقفزةٍ أولى بلغت نحو 8 في المئة ليلامس 78 دولارًا في 13 حزيران، قبل أن يستقرّ حول هذا المستوى ضمن تذبذباتٍ حذرة. التفسير الأول الذي يقدّمه الباحث في شؤون الطاقة في معهد عصام فارس في الجامعة الأميركية في بيروت مارك أيوب، في حديثه إلى "المدن" يقوم على أنّ "الأسواق لا تتفاعل مع تقلّص فعلي للإمدادات لأنّ إنتاج أي من الطرفين لم يخرج بعد من السوق؛ إنّها تتفاعل مع الخطر السياسي ذاته". بهذا المعنى، فإنّ علاوة المخاطر – لا نقص البراميل – هي التي رفعت السعر بالسرعة الأكبر منذ ثلاث سنوات.
هذه "العلاوة" تتغذّى يوميًا من صور الخزّانات المشتعلة في منشأة "شهران" شمال غربي طهران وخطوط الأنابيب المتضررة في مجمّع "بازان" في حيفا. صحيحٌ أنّ الضربات الإسرائيلية عطّلت في إيران إنتاجًا غازيًا محلّيًا بنحو 12 مليون متر مكعّب يوميًا، وأنّ طهران ردّت بإقفالٍ مؤقّت لبعض مرافق التكرير الإسرائيلية، لكن البراميل المصدّرة إلى السوق العالميّة لم تمسّ بعد. لذلك يرى أيوب أنّ "حساب المضاربين يقوم الآن على السؤال الآتي: ماذا لو خرجت شحنةٌ واحدة فعليًا من المعادلة؟". وفي انتظار الجواب، يواصل المتداولون تسعير الاحتمال قبل الواقع.
مضيق هرمز واحتياطيات الطوارئ
لكن الاحتمال الأثقل ظلّ مخيّمًا عند مضيق هرمز، الشريان الذي يمرّ عبره خمس النفط المنقول بحرًا عالميًا ونحو 20 في المئة من الغاز المسال. وجّهت تهديدات إيرانيّة مستترة إلى إقفال المضيق أو على الأقلّ إلى عرقلة المرور فيه، ولا يخفي أيوب أنّ "الأسعار ستعاد صياغتها كليًّا إذا تحوّلت هذه التهديدات إلى فعلٍ عسكريّ واضح؛ فشركات التأمين سترفع أقساطها إلى مستوى حرب الناقلات في الثمانينيّات، وستقفز كلفة الشحن إلى حيث تدفع أي ناقلة ثمن عبورها بالدولار والدّم معًا". عند هذه النقطة يخرج الاحتياطي البترولي الاستراتيجي الأميركي (SPR) من خزاناته، وتتدخّل وكالة الطاقة الدوليّة بضخٍّ جماعيّ في ما يعرف بآليّة الاستجابة الطارئة. إنّها لحظةٌ لا تستدعى فيها البراميل الاحتياطيّة إلّا حين يخسر السوق ما يوازي ثلاثة أيام من الاستهلاك العالميّ دفعةً واحدة، أو حين يغلق هرمز بالكامل، بحسب معايير الوكالة. أيوب يذكّر بأنّ "تجربة 2011 في ليبيا كانت دون تلك العتبة، ومع ذلك استخدم SPR أمّا إقفال هرمز، فيفقد السوق نحو 20 مليون برميل يوميًا، وهو ما يبرّر تدخّلًا أوسع بكثير وفوريًّا".
سلّمٌ ثلاثيّ لتسعير الخطر
ضمن هذا المنطق يقدّم أيوب سلّمًا ثلاثيّ الدرجات لتسعير المخاطر:
الدرجة الأولى- السيناريو القائم: استمرار القصف المتبادل لمنشآت محليّة في إيران وإسرائيل بلا تعطيل حقيقيّ للتصدير يعني بقاء الأسعار تحت سقف 80 دولارًا، تتأرجح صعودًا وهبوطًا مع كلّ بيان عسكريّ جديد.
الدرجة الثانية- توسّع الاستهداف إلى مصافي التصدير الإيرانيّة (جزيرة خرج مثلًا) أو إلى حقول "كاريش" و"ليفياتان" الإسرائيلية: هنا يقدّر أيوب القفزة بنحو عشرة دولارات إضافيّة ليقترب برنت من 90 دولارًا، مع انعكاسٍ سريعٍ على عقود الغاز الإقليميّة التي كانت قد ارتفعت فعلًا نحو 5 في المئة منذ بدء الضربات.
الدرجة الثالثة- إقفال هرمز وربّما باب المندب معًا: عندها يدخل السعر نطاق المئة إلى 120 دولارًا، وقد يصل إلى 130 دولارًا وفق تقديرات مصرف جي بي مورغان. السوق سيحتاج أسابيع لتعويض حجمٍ كهذا، حتى لو فتحت الولايات المتّحدة والصين والهند مخزوناتها في الوقت نفسه.
في هذه الدرجات الثلاث يقارن الخطر السياسيّ بالخطر اللوجستيّ: الأول يسعّر بالدولارات، والثاني يقاس بالبراميل المفقودة فعليًا. أي تحوّلٍ من الأول إلى الثاني هو ما يقف عليه العالم اليوم حابسًا أنفاسه.
عبءٌ مضاعف على لبنان
خارج هذا المشهد العالميّ، يقف لبنان على الأطراف لكنه يتحمّل العبء على نحوٍ مضاعف. إذ لا يمتلك البلد احتياطياتٍ استراتيجيّةً ولا قدرةً على تثبيت الأسعار. ومع نشر جدول تركيب الأسعار صباح كلّ يوم، يجد اللبنانيّ صفيحة البنزين تتسلّق لائحة الأرقام، بينما بقي سعر الغاز المنزلي ثابتًا نسبيًّا. هنا يشرح أيوب أنّ "الزيادات الأخيرة تعزى أولًا إلى علاوة الخطر على الشحن والتأمين في الشرق الأوسط، ثمّ إلى ضريبةٍ محلّيّة رفعت مطلع العام، ولا صلة لها عمليًّا بتقلّبات سعر الصرف أو برسم الاستيراد اللذين بقيا مستقرّين". ببساطة، صارت البواخر تدفع بوليصة تأمينٍ أعلى، وتنقل الكلفة إلى المستوردين، فينتهي الأمر عند المضخّة.
الهشاشة في سلسلة الإمداد تطرح السؤال الأكثر حدّة: ماذا لو تعطّل المرور عبر هرمز فعلًا؟ البديل الواقعيّ، وفق مراقبين، هو "التوجّه إلى السوق الفوريّ في المتوسّط — الجزائر، ليبيا، وربّما روسيا عبر موانئ اليونان وتركيا — لكن سعة خزّانات طرابلس والزهراني لا تسمح بتخزين أكثر من أسابيع قليلة من الاستهلاك، فيما يرتفع الطلب الأوروبيّ على الديزل بعد الحرب الأوكرانيّة، فيضاف عائقٌ تنافسيّ إلى معادلة السعر". وبغياب عقودٍ طويلة الأجل، تضطرّ الشركات اللبنانيّة إلى شراء شحناتها "Spot"، مع ما يعنيه ذلك من تعرّضٍ مباشر لتقلّبات السوق اليوميّة.
المشكلة أنّ أي ارتفاعٍ في سعر النفط الدوليّ يترجم تلقائيًّا في ماليّةٍ عامّةٍ مثقلةٍ أصلًا. فشركة كهرباء لبنان تعتمد على فيولٍ عراقي مدعوم نسبيًّا، لكن العقد العراقي لا يغطّي كامل الطلب، ومع ارتفاع أسعار السوق الفوري ستضطرّ الحكومة إلى زيادة الإنفاق لتأمين تغذيةٍ إضافيّة، وإلّا ستعود العتمة الشاملة. هذا يزيد عجز المؤسّسة قبل أن تبدأ خطّة التعرفة الجديدة فعلًا.
تضخّم وانعكاسات اجتماعيّة
ولأنّ العجز الماليّ لا يأتي وحيدًا، تبرز الآثار التضخّميّة والاجتماعيّة، فعلاوة المخاطر على الوقود تنعكس فورًا على المولّدات الخاصّة وعلى النقل العام، وتمرّ عبرهما إلى سلّات الغذاء. نتحدّث عن موجة قد تتجاوز خمسة في المئة تضخّمًا فصليًّا، مع دخول الضرائب الأخيرة حيّز التنفيذ وتراجع الأجور الحقيقيّة.
أمّا الأسوأ اجتماعيًا فهو السيناريو الثالث؛ فإذا قفز سعر البرميل فوق 100 دولار، سينعكس ذلك على أسعار المحروقات وبالتالي على السّلع، وتتآكل شبكة الأمان القليلة المتبقّية للأسر الأكثر فقرًا. في هذا السّياق تدعى وزارة الاقتصاد إلى فرض رقابة، وفق أيوب، لأنّ "المورّدين سيعزون كلّ تقليصٍ في الهامش إلى الحرب، وقد يسعّر بعضهم الشحنات المقبلة على أساس سعرٍ مستقبليٍّ فقط بناءً على الخطر السّياسيّ"، على حدّ توصيفه.
على المدى القصير، يبدو العالم محصّنًا بأغلفة امتلاك المخزون الاستراتيجي؛ فـ SPR الأميركي يضمّ نحو 346 مليون برميل حتّى مطلع حزيران، وتمتلك وكالة الطاقة الدوليّة في دولها الأعضاء ما يقارب 1.2 مليار برميل من المخزون القابل للسحب السريع. أمّا السعوديّة والإمارات فتمتلكان طاقة إنتاجٍ فائضةً تراوح بين 1.5 و2 مليون برميل يوميًا يمكن تشغيلها في غضون أسابيع. لكن أيوب يذكّر بأنّ "هذه الأرقام تبدو ضخمةً على الورق، غير أنّها تستهلك سريعًا إذا فقد هرمز أو خرجت صادرات إيران والخليج كلّها: حينها يتطلّب الأمر مئة مليون برميل تعويضًا كلّ خمسة أيام". أي ردٍّ استراتيجيّ يجب أن يأخذ في الاعتبار "أنّ المخزون يفرغ مرّةً واحدة، فيما الحرب قد تطول شهورًا". ولهذا السبب بالذات توازن الرياض وطهران بين لغة الصواريخ وحسابات البرميل؛ فالمواجهة الشاملة تعني نزيفًا ماليًّا يوازي نزيف الميدان.
مخاطر المخزون اللبنانيّ المحدود
لبنان، في المقابل، يعلّق بين رؤوس الجسور المقطوعة. فالمخزون المحلّي لا يكفي أسبوعين إذا خنق الحصار الممرّات، وحوالات مصرف لبنان بالدولار الطازج لا تكفي لسدّ فجوة دعمٍ إضافيٍّ في فاتورة الكهرباء. ومع كلّ شحنةٍ قد تتأخّر، يتحرّك العداد التضخّميّ أسرع ممّا تسمح به قدرة المستهلك. لذلك يرى مراقبون أنّ "إدارة الأزمة تتطلّب أولًا تنويع مصادر الشراء، وثانيًا إنشاء لجنة أزمةٍ دائمة بين الوزارات والمستوردين وشركات النقل لمتابعة أي انقطاعٍ بحريٍّ أو ارتفاعٍ مفاجئٍ في الرسوم". فالسوق اللبنانيّة مفتوحةٌ كليًّا ولا تحتمل الاحتكارات في زمن الحرب.
غير أنّ أوضح مفارقةٍ في هذا الصراع أنّ العالم الكبير يقف على مخزونٍ كبير، فيما اقتصادٌ منهكٌ كلبنان يقف على رصيف البحر ينتظر ناقلةً مجهولة. في بيروت، تختصر معادلة الطاقة اليوم حقيقةً مرّتين: مرّةً حين يترجم سعر برميلٍ بعيد إلى ليرةٍ ناقصةٍ في جيب المواطن، ومرّةً حين يدرك اللبناني أنّ أمنه الطاقويّ صار رهينة صاروخٍ قد ينطلق من شاطئٍ لا يراه أصلًا.
جاد هاني - المدن