هل فعلاً ستُستعاد الأموال المهرَّبة من الخارج؟ وكيف؟ -- Aug 28 , 2025 8
بعد انتهاء موجة التهليل لقرار القاضي المالي ماهر شعيتو الذي قضى بتكليف الأشخاص الطبيعيين والمعنويين بإيداع الأموال المحوّلة إلى الخارج مجدّداً في المصارف اللبنانية، ومع تردّد معلومات عن تلقي بعض المصارف أسماء من يشملهم القرار بردّ الأموال، لا بد من مقاربة الأمور بواقعية لا سيما أن مسألة إعادة الأموال المهرّبة إلى الخارج تطرح سلسلة من التساؤلات القانونية والسياسية المعقدة.
تلك التساؤلات لم ولن يجيب عنها قرار القاضي شعيتو الذي أثار الجدل، لا سيما لجهة غموض التحقيقات الجارية، وغياب الأطر القانونية التي استند إليها القرار، وهذا ما يعزّز الشكوك حول فاعليته وجدّيته.
وبعيداً عن عدم فاعلية قرار شعيتو، فإن إمكان استعادة الأموال "المهرّبة" إلى الخارج يرتبط بصفة الأموال نفسها، وما إن كانت أموالاً غير مشروعة مرتبطة بفساد أو تبييض أموال، أم كانت أموالاً خاصة نظيفة. فهذه الأخيرة يكاد يكون استرجاعها مستحيلاً إلا في حالات استثنائية؛ ربما ترتبط بسن قوانين جديدة، وهو أمر غير مطروح، أو عبر ضغوط سياسية مُستبعدة وشبه مستحيلة.
قانونيون يشكّكون
لا ينفي أحد أهمية القرار لجهة تأثيره على التزامات لبنان الدولية، وما قد يساهم فيه لتنظيف سمعته أمام المجتمع الدولي بعد إدراجه على لائحة مجموعة العمل المالي الرمادية، ولائحة الاتحاد الأوروبي السوداء، لكن هل فعلاً لقرار القاضي المالي قيمة فعلية وتنفيذية؟ وهل سيُستعاد كلّ أو جزء من الأموال المهرّبة إلى الخارج؟
يشكّك قانونيون بصحة القرار والقدرة على تطبيقه، ويصفه البعض بالقرار الشعبوي. وتورد الباحثة في القوانين المصرفية والمالية سابين الكيك في حديث إلى "المدن" بعض الملاحظات القانونية العلمية حول القرار. وهي إذ ترحّب بكل قرار قضائي في قضية الأزمة المصرفية يعيد تصويب الأمور في نصابها القانوني الصحيح، ترى أن قرار القاضي المالي الأخير بطبيعته ليس حكم إدانة، لأن النيابة العامة هي سلطة ادعاء. "إذن هو قرار إجرائي تدبيري استدعته مقتضيات التحقيق والملف، وعادةً، هذا النوع من الإجراءات يهدف إلى الحد من حرية شخص مشتبه به في ناحية معينة لضبط موقت للواقع بظروفه
أموال ذات شبهة جرمية
ولكن المستغرب، وفق الكيك، "أن هذا القرار طلب من الأشخاص المعنيين فتح حسابات مصرفية بأسمائهم، من دون تبيان مصير هذه الحسابات التي يفترض حتماً أنها أموال ذات شبهة جرمية"، بل وأكثر من ذلك؛ قرر المدعي العام بموجب هذه التدابير ذات الصفة الاحتياطية والموقتة "إعادة إدخال تلك الأموال في النظام المصرفي".
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: إذا كانت تلك الأموال ذات شبهة جرمية، وإلى حين إثبات ذلك بحكم مبرم، فهل تجوز إعادتها إلى المصارف، وما مدى حرية استعمالها لهذه الأموال، من دون حسيب أو رقيب؟ وهل النيابة العامة المالية تمتلك صلاحيات الحجز ومنع التصرف؟
وأين مصلحة المودع، وهو المتضرر الأول والأكبر من الأزمة المصرفية؟ والسؤال الأهم: هل ستخضع تلك الأموال لتعميمات مصرف لبنان سارية المفعول، أم ستعامل معاملة خاصة تتوافق مع توصيفها الجرمي الموقت؟
تكليف وليس إلزام
ولأن قرار القاضي قضى بتكليف الذين حوّلوا أموالهم إلى الخارج بإعادتها وليس بإلزامهم، تعلّق الكيك بالقول "هذا القرار قضى بتكليف هؤلاء الأشخاص بإعادة الأموال المحولة وبالعملة نفسها إلى حسابات داخلية، وهل "التكليف" عبارة تفيد الطابع الإلزامي وتحت أية طائلة؟ وماذا لو امتنع أي منهم عن التنفيذ بأية ذريعة كانت، ما هي صلاحيات النيابة العامة المالية في هذا الإطار؟
طبيعة الأموال
وإذا كان من الصعب استعادة الأموال المهرّبة إلى الخارج بناء على قرار شعيتو، فما المطلوب أو ما الإجراءات التي من المفترض اتخاذها لاستعادة تلك الأموال؟ يرى قانوني (فضّل عدم الكشف عن اسمه) أن الملف معقّد، ولكن يبقى الأساس في تحديد صفة الأموال. ففي حال ثبوت أنها أموال غير مشروعة؛ أي ناتجة عن فساد سواء رشاوى أو تبييض أموال أو اختلاس أو استغلال المال العام أو أي جرم آخر، فيمكن ملاحقتها وفق قوانين مكافحة الفساد والإثراء غير المشروع، لكن ذلك سيفتح باباً جديداً على وجهة تلك الأموال في حال إعادتها.
أما في حال ثبوت أنها أموال نظيفة خرجت بطرق قانونية، وإن كانت غير أخلاقية، باعتبار أنه خلال تحويل الأموال خلال الأزمة لم يكن هناك قانون يمنع تحويلها؛ أي قانون الكابيتال كونترول، لكن جرى تحويلها بشكل استنسابي، فإن استعادتها حينذاك تكاد تكون مستحيلة.
ويلتقي القانوني هنا مع الكيك بتوقفها عند عبارة وردت في حيثيات القرار هي "بناء للتحقيقات الجارية"؛ فهي تعني حتماً أن النيابة العامة المالية تحقق في شبهة جرمية مالية تقع ضمن مهامها المنصوص عليها في المادة 19 من أصول المحاكمات الجزائية! ولكن لم نتبين من القرار ما الوصف الجرمي لتلك الأفعال موضوع التحقيق
.
كابيتال كونترول "رجعي"!
تطرّق البعض أخيراً إلى مسألة إصدار قانون كابيتال كونترول بأثر رجعي، اعتقاداً منهم بإمكان ضبط كل الأموال التي جرى تحويلها في السنوات السابقة من دون وجه حق وعلى نحوٍ إستنسابي، غير أن هذا الطرح، وإن كان مستحيلاً على السلطة السياسية والمصرفية التي أتاحت وتواطأت وسهّلت تهريب الأموال، فهو أيضاً يواجه عقبات دستورية.
في المقابل، يرى البعض أن في الإمكان مراجعة التحويلات الكبرى منذ العام 2019 وحتى اليوم، ومطالبة أصحابها بإثبات شرعية مصدرها، علماً أن هذا الأمر هو الآخر يمسّ بسمعة الدولة فيما لو ثبت عدم مشروعية الأموال، وهو ما يطرح تساؤلات حول كيفية إدخالها النظام المصرفي اللبناني منذ ما قبل الأزمة، وهذا الأمر يفتح الباب على مساءلات دولية وتعقيدات إضافية.
يبقى الأكثر واقعية، وفق بعض القانونيين، فتح القضاء اللبناني دعاوى استرداد أموال عامة محدّدة بالأسماء استناداً إلى قوانين مكافحة الفساد وتبييض الأموال، لا سيما في حال ثبوت عدم مشروعية الودائع التي حُوّلت، شرط ألا تُعاد إلى القطاع المصرفي. وهنا يدخل الملف في فرضيات واحتمالات كثيرة.
في المحصلة، يُطرح العديد من الفرضيات في حال ثبوت عدم مشروعية الأموال المحوّلة، بمعنى أنه يمكن استعادة الأموال المهربة في حال تصنيفها أموالاً عامة أو غير مشروعة. وذلك يتطلب قراراً سياسياً، وإجراءات قضائية شفافة، وتعاوناً دولياً. أما الأموال التي يثبت أنها نظيفة، فاستعادتها شبه مستحيلة من الخارج. وبذلك تبقى كل القرارات التي تتخذ في هذا الإطار، على غرار قرار شعيتو، مجرد قرارات شعبوية لا قيمة قانونية لها إلى حين إثبات العكس
المصدر: المدن
الكاتب: عزة حاج حسن
ماهر شعيتو
استعادة الأموال المنهوبة
بعد انتهاء موجة التهليل لقرار القاضي المالي ماهر شعيتو الذي قضى بتكليف الأشخاص الطبيعيين والمعنويين بإيداع الأموال المحوّلة إلى الخارج مجدّداً في المصارف اللبنانية، ومع تردّد معلومات عن تلقي بعض المصارف أسماء من يشملهم القرار بردّ الأموال، لا بد من مقاربة الأمور بواقعية لا سيما أن مسألة إعادة الأموال المهرّبة إلى الخارج تطرح سلسلة من التساؤلات القانونية والسياسية المعقدة.
ad
تلك التساؤلات لم ولن يجيب عنها قرار القاضي شعيتو الذي أثار الجدل، لا سيما لجهة غموض التحقيقات الجارية، وغياب الأطر القانونية التي استند إليها القرار، وهذا ما يعزّز الشكوك حول فاعليته وجدّيته.
وبعيداً عن عدم فاعلية قرار شعيتو، فإن إمكان استعادة الأموال "المهرّبة" إلى الخارج يرتبط بصفة الأموال نفسها، وما إن كانت أموالاً غير مشروعة مرتبطة بفساد أو تبييض أموال، أم كانت أموالاً خاصة نظيفة. فهذه الأخيرة يكاد يكون استرجاعها مستحيلاً إلا في حالات استثنائية؛ ربما ترتبط بسن قوانين جديدة، وهو أمر غير مطروح، أو عبر ضغوط سياسية مُستبعدة وشبه مستحيلة.
قانونيون يشكّكون
لا ينفي أحد أهمية القرار لجهة تأثيره على التزامات لبنان الدولية، وما قد يساهم فيه لتنظيف سمعته أمام المجتمع الدولي بعد إدراجه على لائحة مجموعة العمل المالي الرمادية، ولائحة الاتحاد الأوروبي السوداء، لكن هل فعلاً لقرار القاضي المالي قيمة فعلية وتنفيذية؟ وهل سيُستعاد كلّ أو جزء من الأموال المهرّبة إلى الخارج؟
يشكّك قانونيون بصحة القرار والقدرة على تطبيقه، ويصفه البعض بالقرار الشعبوي. وتورد الباحثة في القوانين المصرفية والمالية سابين الكيك في حديث إلى "المدن" بعض الملاحظات القانونية العلمية حول القرار. وهي إذ ترحّب بكل قرار قضائي في قضية الأزمة المصرفية يعيد تصويب الأمور في نصابها القانوني الصحيح، ترى أن قرار القاضي المالي الأخير بطبيعته ليس حكم إدانة، لأن النيابة العامة هي سلطة ادعاء. "إذن هو قرار إجرائي تدبيري استدعته مقتضيات التحقيق والملف، وعادةً، هذا النوع من الإجراءات يهدف إلى الحد من حرية شخص مشتبه به في ناحية معينة لضبط موقت للواقع بظروفه
ad
".
أموال ذات شبهة جرمية
ولكن المستغرب، وفق الكيك، "أن هذا القرار طلب من الأشخاص المعنيين فتح حسابات مصرفية بأسمائهم، من دون تبيان مصير هذه الحسابات التي يفترض حتماً أنها أموال ذات شبهة جرمية"، بل وأكثر من ذلك؛ قرر المدعي العام بموجب هذه التدابير ذات الصفة الاحتياطية والموقتة "إعادة إدخال تلك الأموال في النظام المصرفي".
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: إذا كانت تلك الأموال ذات شبهة جرمية، وإلى حين إثبات ذلك بحكم مبرم، فهل تجوز إعادتها إلى المصارف، وما مدى حرية استعمالها لهذه الأموال، من دون حسيب أو رقيب؟ وهل النيابة العامة المالية تمتلك صلاحيات الحجز ومنع التصرف؟
وأين مصلحة المودع، وهو المتضرر الأول والأكبر من الأزمة المصرفية؟ والسؤال الأهم: هل ستخضع تلك الأموال لتعميمات مصرف لبنان سارية المفعول، أم ستعامل معاملة خاصة تتوافق مع توصيفها الجرمي الموقت؟
تكليف وليس إلزام
ولأن قرار القاضي قضى بتكليف الذين حوّلوا أموالهم إلى الخارج بإعادتها وليس بإلزامهم، تعلّق الكيك بالقول "هذا القرار قضى بتكليف هؤلاء الأشخاص بإعادة الأموال المحولة وبالعملة نفسها إلى حسابات داخلية، وهل "التكليف" عبارة تفيد الطابع الإلزامي وتحت أية طائلة؟ وماذا لو امتنع أي منهم عن التنفيذ بأية ذريعة كانت، ما هي صلاحيات النيابة العامة المالية في هذا الإطار؟
ad
"
طبيعة الأموال
وإذا كان من الصعب استعادة الأموال المهرّبة إلى الخارج بناء على قرار شعيتو، فما المطلوب أو ما الإجراءات التي من المفترض اتخاذها لاستعادة تلك الأموال؟ يرى قانوني (فضّل عدم الكشف عن اسمه) أن الملف معقّد، ولكن يبقى الأساس في تحديد صفة الأموال. ففي حال ثبوت أنها أموال غير مشروعة؛ أي ناتجة عن فساد سواء رشاوى أو تبييض أموال أو اختلاس أو استغلال المال العام أو أي جرم آخر، فيمكن ملاحقتها وفق قوانين مكافحة الفساد والإثراء غير المشروع، لكن ذلك سيفتح باباً جديداً على وجهة تلك الأموال في حال إعادتها.
أما في حال ثبوت أنها أموال نظيفة خرجت بطرق قانونية، وإن كانت غير أخلاقية، باعتبار أنه خلال تحويل الأموال خلال الأزمة لم يكن هناك قانون يمنع تحويلها؛ أي قانون الكابيتال كونترول، لكن جرى تحويلها بشكل استنسابي، فإن استعادتها حينذاك تكاد تكون مستحيلة.
ويلتقي القانوني هنا مع الكيك بتوقفها عند عبارة وردت في حيثيات القرار هي "بناء للتحقيقات الجارية"؛ فهي تعني حتماً أن النيابة العامة المالية تحقق في شبهة جرمية مالية تقع ضمن مهامها المنصوص عليها في المادة 19 من أصول المحاكمات الجزائية! ولكن لم نتبين من القرار ما الوصف الجرمي لتلك الأفعال موضوع التحقيق
ad
.
كابيتال كونترول "رجعي"!
تطرّق البعض أخيراً إلى مسألة إصدار قانون كابيتال كونترول بأثر رجعي، اعتقاداً منهم بإمكان ضبط كل الأموال التي جرى تحويلها في السنوات السابقة من دون وجه حق وعلى نحوٍ إستنسابي، غير أن هذا الطرح، وإن كان مستحيلاً على السلطة السياسية والمصرفية التي أتاحت وتواطأت وسهّلت تهريب الأموال، فهو أيضاً يواجه عقبات دستورية.
في المقابل، يرى البعض أن في الإمكان مراجعة التحويلات الكبرى منذ العام 2019 وحتى اليوم، ومطالبة أصحابها بإثبات شرعية مصدرها، علماً أن هذا الأمر هو الآخر يمسّ بسمعة الدولة فيما لو ثبت عدم مشروعية الأموال، وهو ما يطرح تساؤلات حول كيفية إدخالها النظام المصرفي اللبناني منذ ما قبل الأزمة، وهذا الأمر يفتح الباب على مساءلات دولية وتعقيدات إضافية.
يبقى الأكثر واقعية، وفق بعض القانونيين، فتح القضاء اللبناني دعاوى استرداد أموال عامة محدّدة بالأسماء استناداً إلى قوانين مكافحة الفساد وتبييض الأموال، لا سيما في حال ثبوت عدم مشروعية الودائع التي حُوّلت، شرط ألا تُعاد إلى القطاع المصرفي. وهنا يدخل الملف في فرضيات واحتمالات كثيرة.
في المحصلة، يُطرح العديد من الفرضيات في حال ثبوت عدم مشروعية الأموال المحوّلة، بمعنى أنه يمكن استعادة الأموال المهربة في حال تصنيفها أموالاً عامة أو غير مشروعة. وذلك يتطلب قراراً سياسياً، وإجراءات قضائية شفافة، وتعاوناً دولياً. أما الأموال التي يثبت أنها نظيفة، فاستعادتها شبه مستحيلة من الخارج. وبذلك تبقى كل القرارات التي تتخذ في هذا الإطار، على غرار قرار شعيتو، مجرد قرارات شعبوية لا قيمة قانونية لها إلى حين إثبات العكس
المصدر: المدن
الكاتب: عزة حاج حسن