الوظيفة العامة في سوريا: التعيينات عشوائية والقانون مؤجل

الوظيفة العامة في سوريا: التعيينات عشوائية والقانون مؤجل -- Sep 09 , 2025 20

منذ عقود، ظلّ ملف التوظيف في القطاع العام في سوريا مرهوناً بقوانين متبدلة وتعليمات استثنائية، راوحت بين محاولات للضبط الصارم وفترات من التسيّب والعشوائية. وبينما كان يُفترض أن يوفّر قانون العاملين الأساسي الرقم 50 للعام 2004 إطاراً واضحاً لضمان العدالة وتكافؤ الفرص، إلا أن التطبيق العملي أظهر ثغرات كبيرة سمحت بانتشار المحسوبيات وتضارب المعايير.

 

في موازاة ذلك، تعمل وزارة التنمية الإدارية حالياً على صياغة مشروع قانون "الخدمة المدنية" ليكون بديلاً لقانون العاملين الأساسي الرقم 50 للعام 2004، بهدف إعادة هيكلة الوظيفة العامة على أسس جديدة من الكفاية والانضباط. وبينما يغيب الموقف الرسمي عن المشهد، تتباين آراء الخبراء القانونيين والاقتصاديين حول سبل معالجة المرحلة الانتقالية وضمان عدم تكريس التوظيف العشوائي.


إصلاح مؤجل.. ومسابقات معلّقة



في مطلع العام 2022، أعلنت وزارة التنمية الإدارية عن "المسابقة المركزية" كأكبر عملية توظيف في تاريخ القطاع العام، مع وعود بكسر حلقة الفساد والمحسوبيات. صدر الإعلان في 9 كانون الثاني وحدد آخر موعد للتقديم في 17 آذار، ليتدفّق أكثر من 209 آلاف طلب من مختلف المحافظات، ما عكس تعطشًا واسعًا لفرص العمل. لكن ما بدا خطوة إصلاحية، سرعان ما تحول أزمة جديدة، إذ تراكمت الشكاوى حول التدخلات والمحسوبيات في فرز النتائج، قبل أن تعلن الوزارة عن قبول نحو 22 ألف ناجح فقط، ليبقى عشرات الآلاف في خانة المنتظرين.


اللافت أن القانون الأساسي للعاملين الرقم 50 لم يمنح غطاءً كافيًا لضمان نزاهة هذه العملية، إذ بقيت آليات المسابقة خاضعة لقرارات إدارية قابلة للتعليق أو التعديل من دون رقابة مستقلة أو ضمان للطعون. ومع تصاعد الانتقادات وفضائح شبهات الفساد في عمليات التصحيح والتعيين، تحولت "المسابقة المركزية" من رهان على الإصلاح إلى شاهد إضافي على هشاشة النظام القانوني وعجزه عن حماية مبدأ تكافؤ الفرص.

 

الخدمة المدنية بدلاً عن قانون العاملين


في 30 حزيران 2025، تم إقرار تشكيل اللجنة المكلفة بصياغة مشروع قانون "الخدمة المدنية" برئاسة وزير التنمية الإدارية محمد حسان السكاف. اللجنة تضم ممثلين عن الوزارات المعنية وخبراء في الموارد البشرية والتشريعات الإدارية، وهدفها مراجعة وتعديل قانون الخدمة المدنية.

 

منذ تشكيلها، عقدت اللجنة اجتماعات عدة لمناقشة مسودة القانون وتفاصيله. وبين تموز وٱب 2025، ركزت اجتماعاتها على إدارة الموارد البشرية في الدولة، آليات التوظيف، الترقية، والتدريب، إضافة إلى تعزيز الشفافية، تكافؤ الفرص في القطاع العام، تعزيز الانضباط المهني، وضمان بيئة عمل عادلة وآمنة لجميع الموظفين، مع تحديد قواعد السلوك الإداري والعقوبات التأديبية.



وبذلك، تواصل اللجنة اجتماعاتها المكثفة لاستكمال صياغة المشروع قبل نهاية الشهر الجاري، تمهيداً للانتقال إلى مرحلة الإقرار الرسمي للمشروع.


التوظيف الداخلي: حل مرحلي أم التفاف على الأزمة؟



وفي الاتجاه إياه، أطلقت وزارة التنمية الإدارية أخيراً نظام "التوظيف الداخلي" كآلية لإعادة توزيع الكوادر القائمة وتقليص الترهل، حيث يُسمح للعاملين الدائمين في الجهات العامة بالتقدم لشواغر جديدة شرط إرفاق وثيقة "لا مانع" من جهاتهم. وتتم المفاضلة وفق معايير الكفاءة والتخصص والخبرة، ما يجعل هذه الآلية خطوة انتقالية لتنظيم الموارد البشرية، لكنها لا تُغني عن إصلاح شامل لقانون العاملين أو عن نظام توظيف عادل وشفاف.


تعيينات بلا أثر إداري



مصدر إداري في إحدى الوزارات، معني بملف العقود، يوضح لـ "المدن" أن الآلية الطبيعية للتوظيف كما كانت تجري سابقاً، تبدأ عادةً من قسم الشؤون الإدارية، ثم تُحال المعاملة إلى الجهاز المركزي للرقابة المالية لاعتماد الملاك والتثبيت، مشيراً إلى أن أي موظف جديد لا يُباشر عمله إلا بعد استكمال أوراق التعيين النظامية، بدءاً من مذكرة المباشرة وصولاً إلى الصكوك الرسمية.


لكن المصدر يؤكد أنّ الوضع مختلف تماماً اليوم: "لم نرَ أي أوراق تخص المدراء الجدد أو الموظفين الذين جرى تعيينهم أخيراً. لا توجد عقود، ولا مذكرات مباشرة، ولا حتى قرارات انفكاك أو تثبيت، وكأن هذه التعيينات لم تمر بالقسم المختص أساساً".

 

موظفون عالقون بين القوانين

في المقابل، واصلت بعض الوزارات الإعلان عن مسابقات مركزية، كما فعلت وزارة التربية والتعليم أخيراً بطرح مسابقة لانتقاء مشرفين تربويين وإداريين من داخل الملاّك، ما عكس تبايناً في سياسات التوظيف بين القطاعات المختلفة.

تروي ربا وهي معلمة صف متعاقدة منذ خمس سنوات، لـ "المدن" فتقول: "تقدّمت إلى مسابقة كتابية وشفهية في تموز 2020، وبعدها تم تعييننا كوكلاء ثم كمُتعاقدين. قيل لنا إن العقود ستُجدَّد تلقائياً إلى أن نكمل خمس سنوات، ثم يُصار إلى تثبيتنا. هذا العام بلغنا السنة الخامسة، ونترقب: هل سنُثبَّت كموظفين دائمين أم نُفصل ونُترك لمصير مجهول؟"


وفي خطوة جديدة، أصدرت الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية تعميماً إلى الجهات العامة تضمّن تشديداً على ضبط أوضاع العاملين، أبرز بنوده: إنهاء الإجازات المأجورة وعودة الموظفين إلى العمل من بداية أيلول 2025، وإلزام كافة الأجهزة الحكومية بتطبيق نظام البصمة، وتدوير العاملين ضمن الجهة العامة أو بين الجهات في المحافظة بالتنسيق مع وزارة التنمية الإدارية، إضافة إلى منع إصدار قرارات الندب والتكليف باستثناء المحافظات الشرقية، وعدم رفع طلبات تمديد الخدمة لمن بلغ سن التقاعد إلا في حالات الحاجة الماسة، وعدم تجديد العقود الموقتة عند انتهاء مدتها إلا بموافقة الأمانة العامة حصراً، إلى جانب وقف طلبات إعادة العاملين المصروفين من الخدمة، إلا إذا كان سبب الصرف مرتبطاً بدواعٍ أمنية.

ومع غياب الإجابات الرسمية، حاولت "المدن" الحصول على تعليق من وزارة التنمية الإدارية حول مصير العقود الموقتة وآلية التعامل معها في ظل مشروع القانون الجديد، إلا أن الوزارة اعتذرت عن التصريح في الوقت الراهن. كما أن المحاولات المتكررة للتواصل مع نقابة العمال للحصول على موقفها من واقع التعيينات لم تفضِ أيضاً إلى أيّ رد رسمي.

نسخة منقّحة أم قانون جديد؟


ويشير مصدر مطلع على ملف التنمية الإدارية لـ "المدن" إلى أنّ النقاش حول قانون الخدمة المدنية ليس جديداً، إذ كان مطروحاً قبل سقوط النظام السابق بديلاً عن قانون العاملين الأساسي الرقم 50، بعدما جرت محاولات لإقرار تشريعات عدة منفصلة مثل قانون الذمة المالية، قبل أن يُستقر الرأي على قانون واحد شامل. وبحسب المصدر، فإن القانون كان شبه مكتمل بنسبة تقارب 95 في المئة من حيث الدراسات والمقترحات المقدمة من الجهات العامة، لكنه لم يصدر رسمياً آنذاك.

ويلفت المصدر إلى أنّ الاجتماعات الجارية اليوم تأتي في سياق مراجعة ما أُنجز سابقاً مع إدخال تعديلات جديدة، بما ينسف عملياً قانون العاملين الأساسي ويقدّم إطاراً أكثر مرونة من التشريع القديم.

قانون العاملين.. بين الالتزام والتجاوز

من وجهة نظر المحامي عبد المهدي المحمد، فإن التعيين في مؤسسات الدولة حالياً يُفترض أنه يتم وفق القانون الأساسي للعاملين الرقم 50 للعام 2004، مع الإشارة إلى أن بعض القطاعات مثل القضاء ووزارة الدفاع تخضع لقوانين خاصة. ويوضح المحمد لـ"المدن" أن التوظيف قبل العام 2020 كان يتم عبر المسابقات المعلنة رسمياً، حيث يصدر للناجحين صك استخدام موقت يُجدد سنوياً، وقد يبقون على هذا الوضع لعشرات السنين رغم أن حقوقهم التأمينية والطبية والإجازات مساوية للموظف الدائم، باستثناء إمكان عدم تجديد العقد.


كذلك، يبيّن المحمد أن القانون يتضمن استثناءات محددة، مثل تعيين ذوي الإعاقة بنسبة 5 في المئة من الشواغر دون مسابقة، أو الأبطال الرياضيين عند توافر الشاغر، إضافة إلى عقود استثنائية تخص المشاريع الاقتصادية الكبيرة كإنشاء محطات الكهرباء، حيث تقتضي سرعة الإنجاز تجاوز آلية المسابقات.

وهنا يشدد المحمد على أن التعيينات القانونية يجب أن تستند إلى صك استخدام رسمي صادر عن رئاسة الوزراء أو قرار تعيين مثبت، وأيّ توظيف يتم خارج هذه الآلية يُعدّ "مخالفاً".

مقترحات لإصلاح نظام التوظيف

من جهته، يرى الخبير الاقتصادي والمصرفي الدكتور إبراهيم نافع قوشجي، أن إعادة بناء مؤسسات الدولة تتطلب إصلاحاً جذرياً في نظام التوظيف، يقطع مع العشوائية والمحسوبيات ويؤسس لبيئة عمل قائمة على الكفاءة والشفافية والعدالة الاجتماعية. وفي تصريح لـ"المدن" يقترح قوشجي نموذجاً مزدوجاً يعتمد على العقود المرنة لتلبية الحاجات المتغيرة، إلى جانب تعديل قانون العاملين الأساسي بحيث يربط الترقية والتثبيت بالأداء، ويُدخل نظام تقييم دوري، ويمنح الإدارات صلاحيات أوسع في التوظيف والتدريب.


وفي ما يخص العاملين المتعاقدين حالياً، يدعو قوشجي إلى جرد شامل للعقود ثم تصنيفها: تثبيت من يلبون حاجة دائمة وفق معايير واضحة، مقابل منح تعويضات أو فرص إعادة تأهيل للفئات غير الضرورية، مع إطلاق مسار تعاقدي جديد يمنع التوظيف عبر الولاءات السياسية.

ويحذّر من أن تثبيت جميع المتعاقدين دفعة واحدة دون تقييم دقيق سيؤدي إلى زيادة كبيرة في الإنفاق ويكرّس اختلالات يصعب تصحيحها، بينما يوفّر النهج الانتقائي استقراراً مالياً ويُحسّن الأداء المؤسسي على المدى المتوسط. أما إلغاء التوظيف العشوائي، فيُساهم مباشرة في تخفيف الأعباء ويمنح الدولة هامشاً مالياً للتنمية.

أما من الناحية القانونية، يقول الخبير الاقتصادي: "إن المرحلة المقبلة تتطلب إما تعديلاً جذرياً لقانون العاملين الأساسي يشمل إعادة تعريف الوظائف وربط الأجور بالإنتاجية، أو إصدار قانون جديد كلياً إذا تبيّن أن البنية القانونية القديمة مشبعة بثقافة المركزية والولاء السياسي". وفي كل الأحوال، يشدد قوشجي على أن أي إصلاح تشريعي يجب أن يُصاغ ضمن رؤية وطنية لإعادة بناء الدولة، لا كمجرد استجابة تقنية.

وعليه، يبقى ملف التوظيف في مؤسسات الدولة أحد أكثر التحديات إلحاحاً في المرحلة الانتقالية. وبينما ينقسم النقاش بين التمسك بالقانون الأساسي للعاملين الرقم 50 أو صياغة بديل جديد عبر قانون الخدمة المدنية، تظل المعضلة الأساسية في كيفية التعامل مع التعيينات التي جرت خلال الأشهر الماضية، وضمان ألا يتحول الإصلاح الإداري إلى مجرد إجراء شكلي. فالرهان اليوم ليس فقط على إنتاج نصوص قانونية جديدة، بل على بناء منظومة وظيفية عادلة وشفافة تعيد الثقة في المؤسسات وتؤسس لإدارة عامة قادرة على مواكبة إعادة الإعمار وبناء الدولة.


رهام علي - المدن

أقرأ أيضاَ

دبي تعزز موقعها مركزاً عالمياً للثروات الخاصة

أقرأ أيضاَ

العراق يوقع عقوداً كبرى لتطوير حقول النفط في الناصرية وكركوك