على مفترق الغاز: إتفاقيّتان بلا مكتشفات... وانتظار الضوء الأخضر الأميركي! -- Dec 05 , 2025 56
في وقت يتطلع فيه اللبنانيون إلى النفط والغاز، كمصدر حيوي لدعم اقتصادهم المتعثّر، يبقى ملف البحر مفتوحاً على تساؤلات كبرى. إتفاقيتان لترسيم الحدود البحرية جرى توقيعهما حتى الآن، لم تسفرا عن أي اكتشافات تجارية. والدولة تجد نفسها في انتظار الضوء الأخضر الأميركي لبدء أي تحرّك فعلي. وبين الفرص الموعودة والواقع المعقد، يبقى مستقبل الغاز اللبناني على مفترق طرق.
وبعد الفشل في البلوكين 4 و9 وإظهار نتائج الحفر في بئر واحدة في كلّ منهما، أن لا غاز أو مكتشفات تجارية بل ماء فقط، على ما أعلنت "توتال"، التي لم تُقدّم بعد إلى الدولة اللبنانية تقريرها النهائي عن الحفر في البئر رقم 31/1 في حقل قانا، رغم مرور أكثر من عامين على وقف أعمالها. عادت الدولة وأدخلت البلوك 8 في دوّامة التأجيل والمماطلة، بعد أن وافقت مجدّداً على اتفاقية استكشاف البلوك 8 ، وتلزيم كونسورتيوم الشركات نفسه (أي "توتال" و"إيني" و"قطر للطاقة") القيام بعمليات الحفر فيه.
وهذه الاتفاقية الجديدة التي وافق عليها مجلس الوزراء في تشرين الاول الفائت، تؤدّي إلى تأجيل المسح الزلزالي في البلوك 8 لمدة ثلاث سنوات، في حين أنّ عملية الحفر والتنقيب لن تحصل قبل خمس سنوات. فما هي فائدة اتفاقيات ترسيم الحدود بين لبنان و "اسرائيل "من جهة، وبينه وبين قبرص "اليونانية" من جهة أخرى؟ وما هي النتائج المتوخاة منهما؟ ويبقى السؤال الأكبر معلقّاً: هل سيشهد لبنان اكتشافات حقيقية تفتح أبواب الاقتصاد؟ أم سيظل الغاز مجرد وعد بعيد على مفترق طرق يكتنفه الغموض؟
مصادر سياسية مطّلعة أكّدت أنّ المفاوضات التي بدأت في لجنة "الميكانيزم" في الناقورة، بعد إدخال مدني عن كل جانب، سفير لبنان السابق في الولايات المتحدة سيمون كرم عن لبنان، والمسؤول الأعلى للشؤون الخارجية في "المجلس الأمن القومي الإسرائيلي" أوري ريزنيك عن "إسرائيل"، وتناولت شؤوناً إقتصادية، على ما تريد إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ستبحث ملف النفط، وفق طموحات واشنطن. وهذا يعني ما جرى الإعلان عنه حتى الآن، بعد حفر البئرين في كلّ من البلوكين 4 و9، ليس كلّ الحقيقة. وهذه الأخيرة ستظهر بعد إعطاء الضوء الآخر لشركات النفط، ومنها إلى لبنان، ببدء استكشاف مكامن الغاز في البلوكات البحرية اللبنانية.
وعن الاتفاقيتين اللتين عقدتا حتى الآن، تجد المصادر أنّه في تشرين الثاني الفائت، شهد ملف النفط والغاز اللبناني تحرّكاً ديبلوماسياً لافتاً، بعد توقيع لبنان اتفاقية ترسيم بحرية مع قبرص اليونانية (في 26 منه)، في خطوة اعتبرتها الحكومة اللبنانية محطة ضرورية، لفتح آفاق استكشاف جديدة في شرق المتوسط. فالاتفاق، من وجهة نظرها، يزيل أحد العقبات التقنية أمام جولات التراخيص، ويأتي مكملًا لوساطة الأميركي آموس هوكشتاين، الذي أنهى شروط الترسيم البحري بين لبنان و "إسرائيل" في 27 تشرين الأول من العام 2022، ما يجعل خارطة المناطق الاقتصادية اللبنانية أكثر وضوحاً أمام شركات الطاقة الدولية.
لكن القراءة التقنية والسياسية لهاتين اتظهر أنّ الطريق نحو مكتشفات غازية وإنتاج تجاري في البلوكات البحرية اللبنانية، وفق المصادر السياسية، لا يزال طويلا: أولاً على المستوى التقني، إنّ حفر بئر واحدة في حقل "قانا" في البلوك 9، الذي نفذته شركة TotalEnergies وشركاؤها أثارت آمالاً كبيرة عند إطلاق الأعمال، إلا أن النتائج المعلنة لم تؤدِّ إلى اكتشاف تجاري مؤكَّد، والجهة المشغِّلة ما زالت تصدر تحديثات فنية متدرّجة، بينما يطالب الجانب اللبناني بتقارير فنية ونهائية لتقييم جدوى مزيد من الحفر.
وفي ظلّ حديث البعض عن تسليم "توتال" تقريرها النهائي لوزارة الطاقة والنفط، تنفي المصادر هذا الأمر، مشيرة إلى أنها كانت أعلنت عن تسلّمها إيّاه بشكل رسمي، سيما أنّ نتائجه السلبية قد أبلغتها "توتال" إلى وزير الطاقة السابق وليد فيّاض، فور توقف الأعمال، وحزم باخرة التنقيب "ترانس أوشن بارينتس" معدّاتها ومغادرة المياه الإقليمية اللبنانية في 12 تشرين الاول من العام 2023 (أي قبل نحو شهر من انتهاء أعمالها، على ما كان مقرّراً). كذلك فإنّ تفاصيل عديدة كانت منتظرة في التقرير الفني إلى الدولة يشرح نتائج الحفر، التكوينات الجيولوجية، إمكانات الخزّانات المحتملة، وإذا كانت النتائج تؤهل لاستمرار الحفر أو للتخلي عن البلوك. كما أن الحفر في حقل "قانا" جرى على عمق نحو 3900 متر تحت مستوى البحر، في حين كان يُنتظر أن يجري على عمق 4500 م.، الأمر الذي يكون قد أثّر في عدم تسجيل أي اكتشافات للغاز.
من هنا، تلفت المصادر، إلى أنّ هذا الواقع يحوّل الاتفاقات السياسية إلى شروط لازمة، لكنها ليست كافية لتحويل الغاز في البحر إلى دخل فعلي للدولة اللبنانية.
وعلى المستويين الأمني والديبلوماسي، يظهر بوضوح، على ما تشير المصادر السياسية، أنّ توقيع الاتفاقية مع قبرص قد تعرّض لانتقادات إقليمية: أنقرة اعتبرت الاتفاق «مخالفاً لحقوق القبارصة الأتراك» ورفضته رسمياً، ما يسلط الضوء على أن أي ترسيم إقليمي في شرق المتوسط، يمكن أن يواجه اعتراضات قانونية وسياسية، قد تعقد تنفيذ مشاريع مستقلة أو مشتركة. مع ذلك، نفى مسؤولون في نيقوسيا أن يكون الاتفاق قابلاً للإلغاء بسهولة، وأكدوا استمرارية المضي قدماً في التعاون في مجال الطاقة مع لبنان، كخيار استراتيجي بات يدعم توجهات الاتحاد الأوروبي لتأمين إمدادات بديلة.
وثمة ركيزة أخرى، وفق المصادر المطلعة، تحدّد مصير خطوات الاستكشاف، هي الحوكمة الوطنية: حتى الآن لم يُستكمل تشكيل "هيئة مستقلة وفعالة لإدارة قطاع النفط"، تُحدِّد آليات الترخيص، مشاركة العوائد، ومراقبة العقود، وهو شرط أساسي لجذب استثمارات كبرى وتخفيض مخاطر المحاصصة السياسية والفساد. على رغم إطلاق إدارة لبنان لدفعات إدارية، وعرض جولة تراخيص ثالثة بمواعيد نهائية لتقديم الطلبات، فإن غياب منظومة حكمية مستقرة يظلّ عامل إضعاف لمصداقية السوق.
أمَّا البند الإقليمي المتبقي، فهو الحدود البحرية مع سوريا: هذه المسألة لم تُحسم بعد، ويبدو أنّها ستأخذ وقتاً طويلاً، وخصوصاً أنّ هناك ملفات أخرى تعتبرها سوريا ذات أولوية أكثر من الترسيم. الأمر الذي يُشكّل ثغرة في اكتمال الخريطة الاقتصادية اللبنانية. فتأخير الترسيم مع دمشق يؤثر في تحديد بلوكات جنوبية، وربما يحول دون استغلال كامل لإمكانات البحر، كما يعقّد تقسيم المخاطر القانونية أمام الشركات الأجنبية.
وتخلص المصادر إلى القول إنّ الاتفاقيتين البحريتين مع "إسرائيل"، ومع وقبرص، تمنح لبنان فرصة سياسية وتقنية نادرة لتطوير قطاعه البحري، لكن تحويل هذه الفرصة إلى واقع اقتصادي يتطلب ثلاثة عناصر متزامنة:
1- نتائج استكشافية إيجابية من آبار إضافية أو تقييمات فنية مقنعة في البلوكات الحالية. فمن الناحية الاستكشافية، جرى إغلاق بئر "قانا" 31/1، بعد أن اعتبرت "جافة" (من دون غاز تجاري). وهذا الأمر يقلّل فرص أن تكون تلك البئر نفسها منتجة، لكن لا يعني حكماً أن كل البلوك خالٍ من موارد. فتكوين البحر جيولوجياً قد يكون متنوعاً، وموقع أو عمق مختلف قد يُظهر إمكانات أخرى. كما يبدو أنّ "توتال" وشركاءها، قد أجّلوا فكرة حفر بئر ثانية، ربما بسبب النتيجة السلبية أولاً، وربما بسبب عوامل مالية أو ضغوطات سياسية أو أمنية.
2- تشكيل أو تعيين هيئة جديدة لإدارة قطاع النفط تكون مستقلة وواضحة الصلاحيات لإدارة العقود والعوائد. فضلاً عن الكشف عن نتائج دورة التراخيص الثالثة والمواعيد النهائية لإغلاقها.
3- تقليل الاحتكاكات الإقليمية أو احتواء آثارها ، عبر مسارات ديبلوماسية وقانونية متينة. فبدون هذا المثلث لن تتجاوز الخطوات السياسية مرحلة «الإمكان» إلى مرحلة "التحقق والإنتاج".
دوللي بشعلاني - الديار