قطاع الاتصالات ... من مرحلة التعطيل إلى مرحلة التطبيق -- Dec 15 , 2025 18
لم يكن القرار الذي اتّخذه وزير الاتّصالات شارل الحاج، والقاضي بتسليم الهيئة المنظّمة للاتّصالات صلاحياتها كاملة كما نصّ عليها القانون، ولا سيّما صلاحية تنظيم القطاع ومنح التراخيص، مجرّد إجراء إداري أو تفصيلي، بل شكّل سابقة فعلية وخطوة مفصلية في مسار قطاع الاتّصالات في لبنان، وخيارًا استراتيجيًا باتجاه إعادة الانتظام المؤسّسي، وترسيخ منطق الدولة بالقانون، وفتح الباب أمام تنظيم واقعي وشفاف لهذا القطاع الحيوي.
فبعد أكثر من ثلاثة وعشرين عامًا على صدور قانون الاتّصالات رقم 431/2002، ورغم إنشاء الهيئة المنظّمة للاتّصالات منذ سنوات طويلة، لم يطبق أي وزير سابق جوهر هذا القانون من تعيين رئيس وأعضاء للهيئة إلى تسليم الهيئة صلاحياتها الكاملة، وخصوصًا في ما يتعلّق بالتراخيص. إلى أن جاء قرار الوزير الحاج، ليكسر حلقة التعطيل المزمنة ويضع الأمور في نصابها القانوني والمؤسساتي.لقد تعاقب وزراء كُثُر على وزارة الاتّصالات، وتغيّرت حكومات وظروف سياسية وأمنية واقتصادية، لكنّ الثابت الوحيد كان الإحجام عن اتخاذ هذه الخطوة المفصلية، إمّا خوفًا من كلفة سياسية، أو خضوعًا لتوازنات ومصالح راسخة داخل القطاع، أو تمسّكًا بالصلاحيات داخل الوزارة.
من هنا، تكتسب مبادرة الوزير الحاج أهميتها الاستثنائية، لأنّها لم تساير الأمر الواقع، بل واجهته، وقدّمت منطق الدولة على منطق التسويات.
وإحالة جميع ملفات التراخيص وطلبات الحصول عليها إلى الهيئة المنظّمة للاتّصالات تعني عمليًا إخراج هذا الملف من دائرة الاستنسابية، ووضعه تحت سلطة جهة مستقلة أنشأها القانون خصيصًا لضمان الشفافية والمنافسة العادلة.
ولا يمكن فصل هذه الخطوة عن التطوّر اللافت المتمثّل بإقدام الهيئة، وللمرّة الأولى منذ عام 2007، على إصدار الأنظمة المتعلّقة بأصول الترخيص وإدارة حيز التردّدات اللاسلكية ونشرها في الجريدة الرسمية. فهذا التزامن يؤشّر إلى انتقال فعلي من مرحلة التعطيل إلى مرحلة التطبيق، ومن إدارة فيها عيوب إلى تنظيم واضح ومعلن.
من جهة أخرى وبالنسبة إلى قطاع الاتّصالات، يشكّل هذا القرار نقطة تحوّل استراتيجية، فهو يفتح الباب أمام سوق منظّمة وقابلة للاستثمار، ويبعث رسالة ثقة إلى الشركات والمستثمرين مفادها أنّ القواعد أصبحت واضحة، وأنّ لبنان بدأ يسلك طريق الإصلاح الفعلي لا الشّكلي. كما يحدّ من الاحتكارات المقنّعة ويعزّز المنافسة، ما يشكّل شرطًا أساسيًا لتطوير الخدمات ومواكبة التحوّل الرقمي العالمي.
أما المستهلك اللبناني، الذي دفع على مدى سنوات كلفة الفوضى وغياب التنظيم، فهو المستفيد الأول من هذه الخطوة. اذ ان تنظيم السوق عبر هيئة مستقلة ينعكس تحسينًا في جودة الخدمة، وعدالة في الأسعار، وحماية لحقوق المستخدمين، ويؤسّس لمسار مساءلة حقيقي، بدل ترك المواطن رهينة قرارات مبهمة وغير قابلة للطعن.في الخلاصة، ما قام به الوزير شارل الحاج هو فعل سياسي-إداري اعاد الاعتبار للدولة، وللمؤسسات، ولمنطق المحاسبة. وإذا ما استُكملت هذه الخطوة بإجراءات إصلاحية مكمّلة، فإنّ قطاع الاتّصالات قد يكون من أوائل القطاعات التي تخرج فعليًا من منطق الإدارة بالاستثناء والاستنسابية والمحسوبية، إلى منطق الدولة بالقانون.