ديوان المحاسبة يعدم صفقة الـOTT: لا تجميل ينقذ "ستريم ميديا" باسم المصلحة العامة -- Jun 19 , 2025 10
رفضت الغرفة الثانية بديوان المحاسبة مجددًا صفقة تلزيم شركة STREAM MEDIA خدمة نقل المحتوى الذي يقع ضمن الخدمات المتاحة بحرية على الإنترنت، والمعروفة بالـ "OTT OVER THE TOP". وجاء رفضها الثاني هذه المرة، محفوفًا بتفاوت داخل الديوان في مقاربة الملف، إثر محاولة رئيس الديوان محمد بدران إيجاد أسباب تخفيفية تعيد النظر بالقرار المتخذ، تحت ذريعة أن الغاية في تحقيق "المصلحة العامة" تبرر وسيلة المرونة في تطبيق القوانين. إلا أن الغرفة الثانية أصرت "على تلزيم موارد الدولة العامة بكفاءة وفعالية ومردودية"، رافضة أن تتحول الظروف الاستثنائية مقدمة لإلغاء دور ديوان المحاسبة في الرقابة الإدارية المسبقة، وتعطيل القوانين المرعية الإجراء.
في بدايات الملف أولًا
تحوّل ملف الـ OTT مادة لحوار دسم سواء داخل أروقة ديوان المحاسبة أو في لجنة الاتصالات النيابية، منذ أن كشفت تفاصيل العقد الرضائي المزمع عقده مع شركة STREAM MEDIA في شهر نيسان من العام 2024. فالمشروع الذي يستند بشكل أساسي على بنية أوجيرو لتقديم محتوى تلفزيوني لا يحتاج تقديمه في الأساس إلى وسيط، أحيط بحماس كبير من قبلها ومن وزارة الاتصالات. فسوقا لشركة "ستريم ميديا" التي أبرم العقد معها، على أنها مالكة محتوى حصري تلفزيوني وسينمائي عرضت الشركة تقديمه عبر منصة OTT.
لم يخالف ديوان المحاسبة الإدارة في كون المشروع مهمًا لتطوير قطاع الاتصالات، وأنه يمكّن هيئة أوجيرو من تقديم خدمات جديدة ورائدة، ولا سيما أنه يسمح بنشر وبث محتوى القنوات اللبنانية الأساسية بواسطة منصة OTT. إلا أنه رأى أن عدم مراعاة وزارة الاتصالات للأصول في تنفيذ الصفقة عرقل المشروع وأخّره، وبالتالي فوت مداخيل إضافية ومهمة للدولة، وللمحطات التلفزيونية اللبنانية الطامحة للتحول الرقمي.
إلا أن المذاكرة التي لجأت إليها الغرفة الثانية بالديوان للمشروع، جعلتها تعرّي في قرار سابق لها حقيقة "ستريم ميديا" والعقد المزمع إبرامه معها. فكشفت الغرفة عن نشأة الشركة برأسمال 300 دولار، لإدارة خدمة تقدر أرباحها خلال عشر سنوات بملايين الدولارات. وأظهرت أنها عبارة عن هيكل فارغ تم تأسيسه في سنة 2022 خصيصًا لغرض التعاقد الرضائي مع أوجيرو، من دون أن تملك فعليًا الخبرة المطلوبة لإدارة هذا القطاع. كما أنها لم تنفّذ أية مشاريع مشابهة، وإنما ترتبط خبرتها ارتباطًا وثيقا بخبرة مؤسسها بنيامين حجار. هذا بالإضافة إلى أنه ليس لدى الشركة جهازًا بشريًا ولا بيانات مالية ولا رأس مال، وهي أيضًا ليست مسجلة في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. وهذا ما جعل الديوان واثقًا في وصف الشركة بكونها "شركة وهمية" أو ما يعرف بـ SHELL COMPANY.
مراجعة تتمسك بمكتسبات شركة وهمية
شابت مرحلة ترسية العقد على "ستريم ميديا" من دون أي دراسة عن الأسعار والأرباح المقدرة، أو التزام بإجراءات النشر المنصوص عنها في قانون الشراء العام، عيوب كثيرة. فمشروع العقد المقترح لم يقدم أي مستند يثبت الحقوق الحصرية التي تزعمها الشركة في نشر المحتوى، بل اكتفت "ستريم ميديا" بتقديم ثلاث إفادات صادرة عن ثلاث أقنية تلفزيونية لبنانية معروفة، من بين 81 قناة قالت إنها ستؤمن الحقوق الحصرية ببث محتواها. أي أنها لم توفر السند القانوني للمشروع وخصوصًا لجهة تثبيت توفر الحصرية في ما يتعلق بالقنوات التي ستبث الشركة محتواها. وهذا ما جعل الديوان يستنتج أن الشركة المنوي التعاقد معها تأسست للتعاقد رضائيًا مع وزارة الاتصالات، على أن تقوم لاحقًا وبعد توقيع العقد معها وحصولها على تمويل من المشتركين في الخدمة، بالتفاوض مع الموردين للحصول على وكالات حصرية.
كان يفترض بكل ما ذكر وغيره طبعًا، أن يدفع وزير الاتصالات الوصي على المصلحة العامة حينها (جوني القرم)، إلى صرف النظر عن توقيع العقد مع "ستريم ميديا"، والانشغال في "إعادة تكوين ملف جديد للصفقة"، وفقًا للأصول التي تقتضي البدء بتصويب الثغرات القانونية المذكورة أولًا، كما أوصى ديوان المحاسبة. إلا أنه بدلًا من ذلك تبنى الوزير القرم في طلب مراجعة قرار الديوان الذي تقدم به بشهر أيلول من العام 2024، كتاب الشركة "الوهمية" نفسها في الدفاع عن مكتسباتها، وحضن ملف المراجعة الذي فصل على قياسها كما لو أعده بنفسه.
تضليل في الحقوق الحصرية وفي حجم الأرباح والخسائر
وفقًا للمراجعة التي تلقاها الديوان قامت "ستريم ميديا" بتعديل مشروع الاتفاق الرضائي بما يلائمها. وبدلًا من أن تضع الإدارة المواصفات والشروط المطلوبة للخدمات التي هي بحاجة اليها ومن ثم تجري تلزيمها، وفق الشروط القانونية المرعية الإجراء، للتعاقد مع أحد مقدمي الخدمات الذين تتوفر لديهم الشروط المطلوبة، صرّحت "ستريم ميديا" بنفسها أنها حصلت على حق حصري لتوزيع محتوى قنوات TOD على المنصة التابعة لأوجيرو، وهو ما أثار ريبة لدى الديوان، خصوصًا أن الحق الحصري لـ TOD لا يعطى عادة لمنصة لم يبدأ تشغيلها.
حاولت "ستريم ميديا" في مراجعتها بالمقابل تضليل الهيئة الرقابية حول حسابات الربح المقدرة للخزينة العامة، مصرحة عن إيرادات متوقعة عن كل المشتركين في المنصة، بمقابل حصر تحديد كلفتها بعدد مشتركي أوجيرو فقط. وهذه مغالطة اعتبر الديوان أنها ستكبد أوجيرو خسائر تقدر قيمتها خلال عشر سنوات بـ 230 ألف دولار، في حين تزعم الإدارة أن الأرباح المتوقعة من المشروع ستفوق الـ 11 مليون دولار.
لم تتمكن الشركة في المقابل أن تثبت أي خبرة لها في مجال الخدمة المقدمة، علمًا أن الخبرة لدى شخصية مدير الشركة لا يمكن الاعتداد بها، وفقًا للديوان، إلا عند تقويم السيَر الذاتية للخبراء الأفراد المقترحين ضمن فريق العمل. هذا في وقت زعمت الشركة في مراجعتها، امتلاكها بيانات مالية معدة أصولًا، خلافاً لما أدلت به في كتابها إلى وزير الاتصالات في شهر نيسان من العام 2024، بأنها شركة حديثة المنشأ. وهذا ما رأى الديوان أنه يدعو إلى التشكيك في مصداقيتها.
عيوب رغم عمليات التجميل
برغم عمليات التجميل التي أجرتها "ستريم ميديا" في عقدها لتقديم خدمة الـ OTT عبر أوجيرو ، لم تتمكن من خداع الديوان، لتتجاوز امتحانها الثاني معه. هذا بمقابل عجز الضغوطات التي مورست، بالترهيب أو الترغيب، عن حمل غرفته الثانية على ابتلاع عيوب العقد الجوهرية، سواء القانونية أو المالية والإدارية. فسقطت أيضًا مع رفض الغرفة القاطع للصفقة، مصداقية شاشات تلفزيونية ومؤسسات صحافية ومنصات إخبارية، تعامت عن هذه العيوب، وتورطت في حملات ترويجية لمشروع، كاد يرسي العقد على شركة "وهمية".
كان يفترض بالقرار الثاني الصادر عن غرفة الديوان الثانية في المقابل أن يوقف الجدل الذي أثاره الملف، فور تبلغ الجهات المعنية به. ولكن التبليغ تأخر نتيجة لطلب بإعادة النظر بالقرار، تقدم به هذه المرة رئيس ديوان المحاسبة محمد بدران، تحت ذريعة "تأمين المصلحة العامة، وحقوق الخزينة، وحماية اصحاب المحتوى التلفزيوني" الذين اعتبر بدران أن الصفقة تشكل دعماً لهم في مكافحة القرصنة غير الشرعية.
برر بدران في كتابه إلى الغرفة الثانية طلب إعادة النظر بأن "المشروع المعروض هو في جوهره هبة تنموية تهدف إلى تعزيز البنية التحتية الرقمية في البلاد، دون أن يترتب على الدولة أي التزام مالي، داعيًا إلى "عدالة مرنة" تتيح مراجعة القرارات عندما تكون المصلحة العامة على المحك.
وأبدى بدران في تعليل طلب إعادة النظر، خشية من تضييع فرصة استثمارية هامة من خلال هذه الصفقة، وبالتالي تضييع منافعها الاقتصادية والاجتماعية. واعتبر بالتالي أن "الظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد تستوجب مرونة في تطبيق النص القانوني، مع التشدد في فرض شروط على الإدارة تؤدي إلى احترام النصوص القانونية وتطبيقها".
احترام هذه النصوص القانونية اللاحق لقبول الصفقة بدا مستحيلًا بالنسبة لغرفة الديوان الثانية، إذ كيف يمكن أن تقبل الصفقة مثلًا من دون أن تكون قد خضعت لأحكام دفتر شروط مسبق، ومن دون موجب النشر المنصوص عليه في قانون الشراء العام بهدف تأمين تكافؤ الفرص وعلنية الإجراءات الذي يضمن المعاملة العادلة والمتساوية والشفافة التي ينص عليها القانون.
عيوب تمس الجوهر
انطلاقاً من هذه الملاحظات وغيرها اعتبرت الغرفة الثانية، أن العيوب الموجودة في العقد جوهرية، وهي تمس بالمبادئ المرتبطة بالنظام العام، وتؤدي إلى بطلان التلزيم بطلانًا مطلقًا. وبالتالي رفضت الغرفة تأبيد هذه العيوب، مشددة على أن الموافقة على مشروع العقد، مهما كانت الظروف، عادية أم استثنائية، يؤدي إلى تغليب المصلحة الخاصة للشركة على المصلحة العامة"، إذ خصوصًا أن ميزة العقد الأساسية، كما تبين للديوان، هي "في إصرار الإدارة غير المفهوم على التعاقد معها مهما كان الثمن".
ورأت الغرفة أيضًا "أنه إذا كانت هناك مصلحة عليا أكيدة للدولة من خلال السير بهذا الملف رغم المخالفات الواردة على متنه، ورغم ظهور الشركة بمظهر هيكل فارغ، فإن ذلك عندها يخرج عن صلاحية الديوان، ويعود أمر البت به للسلطات الدستورية المعنية، ومنها، على سبيل المثال، مجلس الوزراء سندًا للمادة 41 من قانون تنظيم الديوان".
لا شك أن المسار الذي اتخذه هذا الملف منذ أكثر من عام حتى الآن كشف عن تساهل الإدارة الذي يصل حدّ التواطؤ، وتحديدًا في مسألة التلزيمات والعقود الرضائية. فهل يكون إصرار غرفة الديوان الثالث على بطلان عقد "ستريم ميديا" ثابتاً هذه المرة، وخصوصاً بظل تبدل القيمين على المصلحة العامة سواء في وزارة الاتصالات أو هيئة أوجيرو؟ وهل تلجأ الإدارة بالتالي إلى مبدأ المساءلة، أقله في كشف سبب التمسك بالعقد معها في الأساس، ومن يقف خلفه فعليًا؟
لوسي بارسخيان - نداء الوطن