هل يمكن تحقيق المعادلة الصعبة في الموازنة العامة؟

هل يمكن تحقيق المعادلة الصعبة في الموازنة العامة؟ -- Jul 16 , 2025 6

في ظل الأزمة المالية والاقتصادية التي يعاني منها لبنان منذ سنوات، ومع تدهور قيمة الليرة اللبنانية، وغياب الثقة بالمؤسسات، وتراجع مستوى الخدمات الأساسية، تجد الحكومة اللبنانية نفسها أمام تحدٍّ مزدوج: من جهة، هناك حاجة ملحة إلى زيادة إيرادات الخزينة لتمويل الإنفاق العام وسدّ العجز، ومن جهة أخرى، يجب تحقيق هذه الزيادة في الإيرادات وخفض العجز من دون تحميل الفقراء والطبقة الوسطى أعباءً إضافية، ومن دون خنق القطاع الخاص الذي يُفترض أن يكون المحرّك الأساسي للنموّ.


لكن هل يمكن فعلاً تحقيق هذه المعادلة الصعبة؟ الجواب هو نعم. الحلّ لا يكمن في رفع الضرائب على المحروقات أو المداخيل المحدودة، بل عبر نهج إصلاحي مدروس وجريء مبني على العدالة الضريبية والكفاءة في التحصيل وإعادة هيكلة الإنفاق العام وترشيد المصروفات ومكافحة الهدر والفساد، وتحسين كفاءة الإدارة العامة، ويركز على زيادة إيرادات الدولة من الأثرياء ومن مصادر دخل غير مستغلّة بشكل عادل حتى الآن، من دون التأثير سلباً في النموّ الاقتصادي مع الحفاظ على استقرار المجتمع وتوفير الحد الأدنى من العيش الكريم للفقراء والطبقة الوسطى.


سنعرض بعض الإستراتيجيات التي يمكن اعتمادها؛ أولاً، من المهم تصحيح الخلل في النظام الضريبي الحالي الذي يتّسم بكونه غير عادل وغير فعّال، إذ يُركّز على الضرائب غير المباشرة، وعلى رأسها ضريبة القيمة المضافة التي تُفرض على الاستهلاك، أي يدفعها الفقير والغني بنفس النسب وتطال الكل بمعزل عن دخلهم. فالأعباء الأكبر نسبياً تقع على كاهل من لديهم مداخيل أقل.

 

وفي المقابل، تفتقر الدولة إلى ضرائب تصاعدية على الدخل والثروة والأرباح الكبرى، ما يترك فئة الأثرياء شبه محصّنة من المساهمة العادلة في تمويل الموازنة العامة.



تغيير هذا الواقع يبدأ بإعادة النظر في الهيكل الضريبي ليصبح أكثر تصاعدية وعدالة، من دون التأثير في الاستهلاك ولا في استثمارات القطاع المنتج. وتعدّ الضرائب التصاعدية على الدخل والثروة أداة فعالة لزيادة إيرادات الدولة من دون تحميل الفقراء أعباء إضافية.


وهذا النوع من الضرائب مطبّق في عدد من الدول بهدف إشراك أصحاب الثروات الكبرى في دعم الاقتصاد والمجتمع، لا سيما في ظل الأزمات.



يمكن أن تكون هذه الضريبة تصاعدية وهي تشمل الممتلكات العقارية، الأسهم، السندات، والودائع المصرفية وغيرها من الأصول. أيضاً يجب رفع الضريبة على أصحاب المداخيل المرتفعة، بدلاً من الاكتفاء بنسب منخفضة نسبياً.


ثانياً، من الضروري فرض ضرائب على الأرباح الرأسمالية والمضاربة. واحدة من أبرز مصادر الربح غير الخاضعة للضرائب الفعلية في لبنان هي الأرباح الرأسمالية الناتجة من بيع العقارات الفاخرة والأسهم والمشاريع التجارية الكبيرة وإيرادات المولدات الكهربائية الخاصة (حتى الماضي القريب) وتداول الأسهم والسندات والفوائد المصرفية المرتفعة والتي غالباً ما تكون معفاة أو تخضع لمعدلات ضريبية منخفضة جداً.

 

إن فرض ضريبة بنسبة مرتفعة نسبياً على هذه الأرباح، أسوة بما هو معمول به في دول أخرى، من شأنه أن يولّد مداخيل كبيرة للخزينة، من دون التأثير على الفئات المحدودة الدخل، لأن هذه العمليات تخصّ في الغالب الأثرياء فقط. وهذه الضرائب، إن طُبقت بشفافية وعدالة، لن تؤثّر في القطاع الخاص المنتج، بل في الأرباح غير المنتجة والريعية.



ثالثاً، لا بدّ من مكافحة التهرب الضريبي وهيكلة الرقابة. يقدّر التهرب الضريبي في لبنان بمليارات الدولارات سنوياً، وغالباً ما يُمارس من قبل الأثرياء وبعض كبار رجال الأعمال وشركات كبرى وأفراد نافذين.


لذا، يمكن تحسين الجباية عبر رقمنة النظام الضريبي بالكامل والتتبع الإلكتروني عبر فرض الفوترة الإلكترونية الإلزامية لجميع الشركات، وإنشاء وربط قواعد بيانات موحدة بين وزارة المالية والمصارف والسجل العقاري والإدارات الأخرى.



أيضاً، في الإمكان تحديث فِرق التدقيق والرقابة عبر رفع كفاءة المفتشين الماليين وإنشاء وحدة خاصة للتحقيق في التهرب الضريبي للأثرياء وإجراء تدقيق ضريبي فعّال على كبار المكلفين من شركات وأفراد، وتوظيف فرق مختصة بالتدقيق الضريبي. إضافة إلى ذلك، يجب وضع عقوبات رادعة وصارمة ومعلنة عبر فرض غرامات ضخمة على التهرّب الضريبي وتجميد الأصول للمتهربين الكبار ومنعهم من ممارسة الأعمال التجارية مؤقتاً لردع ظاهرة التهرب الضريبي، وتعزيز ثقافة الامتثال. ضبط التهرب الضريبي وحده كفيل بزيادة المداخيل العامة بشكل ملموس، من دون الحاجة إلى فرض ضرائب جديدة.


رابعاً، تستطيع الحكومة أن تفرض ضرائب ورسوماً على الكماليات والأنشطة الريعية والفاخرة في لبنان. دائماً ما استفادت الكماليات والأنشطة الريعية من غياب الضرائب الفعالة، من دون أن تسهم في خلق فرص عمل أو تنمية مستدامة.

ad

وبدلاً من زيادة الضرائب على السلع الأساسية، يمكن للدولة أن تفرض ضرائب إضافية على المنتجات والخدمات الفاخرة، مثل: السيارات الفارهة واليخوت والطائرات الخاصة والساعات والمجوهرات الفاخرة الباهظة الثمن ورسوم الإقامة في الفنادق الفخمة وتذاكر السفر على الدرجة الأولى ودرجة رجال الأعمال.



هذه الضرائب لن تؤثّر في الطبقة الوسطى أو الفقيرة، بل تستهدف شريحة صغيرة جداً من الأثرياء القادرين على دفع هذه الرسوم من دون أن تتأثر معيشتهم. أيضاً، في الإمكان استحداث رسم على التحويلات المالية الكبرى إلى الخارج، خاصة التي لا ترتبط بتجارة أو استثمار إنتاجي. هذه الرسوم والضرائب لا تؤثّر في الاستثمار، لأنها تستهدف استهلاكاً رفاهياً، ولا تؤثّر في الطبقة الوسطى أو الفقيرة.


خامساً، يجب تحسين وتفعيل واستثمار الأملاك العامة والأصول المملوكة للدولة. يمتلك لبنان مجموعة واسعة من الأملاك العامة غير المستثمرة أو المهملة، بما فيها عقارات في مواقع إستراتيجية وشركات ومؤسسات عامة قابلة للإصلاح أو الشراكة ومرافئ ومطارات ومرافق سياحية.

يمكن للحكومة اللبنانية إدارتها بفعالية أكثر لتحقيق إيرادات من دون اللجوء إلى الخصخصة الكاملة أو تحميل الشعب التكاليف.
سادساً، من المهم تعزيز الشراكة مع القطاع الخاص من دون التخلّي عن العدالة الضريبية.

من الضروري الإشارة إلى أن فرض ضرائب على الأثرياء لا يعني معاداة القطاع الخاص، بل بالعكس، إن وضوح النظام الضريبي وعدالته واستقراره يُعد من العوامل الجاذبة للاستثمار. الشركات لا تمانع دفع الضرائب إن كانت تعرف كيف تُنفق. وغياب المحسوبيات والفساد أهم من خفض الضرائب. الاستثمار يحتاج إلى ثقة ومؤسسات قوية، لا فقط إعفاءات ضريبية. لذلك، يمكن فرض ضرائب عادلة على الأرباح الكبرى، مع منح حوافز للشركات التي تستثمر في الابتكار، التوظيف، أو التصدير.


سابعاً، لا يمكن عدم استرداد الأموال العامة المنهوبة والمهرّبة. واحدة من أهم ركائز تمويل الخزينة يجب أن تكون ملاحقة الأموال العامة المنهوبة، خصوصاً تلك التي تم تهريبها خلال وبعد عام 2019.

ثامناً، ينبغي توسيع الاقتصاد الرسمي وإدماج العاملين في الظل. نسبة كبيرة من النشاط الاقتصادي في لبنان تجري خارج الإطار الرسمي، ما يعني غياب مساهمته في الإيرادات العامة.

لكن بدلاً من معاقبته، يمكن تحفيزه على الانضمام إلى الاقتصاد الرسمي عبر تبسيط إجراءات التسجيل القانوني للمشاريع الصغيرة والمتوسطة والإعفاء الضريبي التدريجي للشركات الجديدة أو العائدة إلى الإطار الرسمي وربط الانضمام للنظام الضريبي ببرامج دعم وتمويل وتدريب. هكذا، يمكن توسيع القاعدة الضريبية، وزيادة الإيرادات من دون رفع نسب الضرائب.

تاسعاً، من المهم خفض وترشيد الإنفاق العام والهدر الناتج من سوء الإدارة وغياب الرقابة وتضخّم الجهاز الإداري. ومن الضروري خفض النفقات العسكرية والإدارية غير الضرورية في سياق تحسين توزيع الموارد وفقاً للأولويات. ولا بدّ من إعادة تقييم العقود مع المتعهدين ومقدّمي الخدمات والتي تُعاني من تضخم أسعار أو خدمات غير فعالة.


بإمكان الحكومة بالتعاون مع ديوان المحاسبة إعادة التفاوض على العقود القديمة، وخفض الكلفة بنسبة عادلة... هذه إجراءات يمكن أن توفّر عشرات ملايين الدولارات سنوياً، من دون التأثير في المواطن أو القطاع الإنتاجي. وطبعاً، ليس ممكناً عدم ذكر ضرورة إصلاح قطاع الكهرباء.

توجد ضرورة وطنية لوقف هذا النزيف في المالية العامة عبر إعادة هيكلة مؤسسة كهرباء لبنان، وتحسين الإنتاج والتوزيع. كما إنه يجب إعادة النظر بكلفة خدمة الدين العام وإصلاح نظام الدعم. إذ إن خفض العجز لا يعني تقشفاً أعمى، بل إصلاح واعٍ.

يُثبت الواقع أن رفع الضرائب على الفقراء والطبقة الوسطى لم يعد مجدياً، بل أصبح خطراً اجتماعياً. والأمل اليوم في أن تتبنى الحكومة اللبنانية سياسة إصلاحية شجاعة تقوم على تحميل الأثرياء نصيبهم العادل من المسؤولية الوطنية. لبنان ليس دولة فقيرة بل دولة منهوبة وتعاني سوءاً في التوزيع.

جمال إبراهيم حيدر - الاخبار

أقرأ أيضاَ

بعد تعميم المركزي.. ما مصير "القرض الحسن" وهل يتأثر الذهب؟

أقرأ أيضاَ

في أي مرتبة جاء لبنان؟ هذه أغلى الدول العربية والعالمية بأسعار البنزين