البطالة المقنعة في لبنان وجه آخر للانهيار الإداري -- Oct 24 , 2025 10
في بلد تتآكله الأزمات الاقتصادية والسياسية، تظهر البطالة المقنعة كوجه آخر للانهيار الإداري، في دولة أنهكتها المحاصصة، وتآكل فيها مفهوم الكفاءة والإنتاجية. فالبطالة لم تعد مقصورة على من لا يملكون وظيفة، بل امتدت لتشمل آلاف الموظفين داخل أروقة الوزارات والإدارات العامة، حيث يقضون ساعات طويلة خلف مكاتبهم، دون أن يكون لهم دور فعلي يذكر.
هذه الظاهرة، المعروفة بـ"البطالة المقنعة"، ليست وليدة اللحظة بل نتاج تراكم سنوات من التوظيف السياسي، الذي يغلب فيه الانتماء الحزبي على الكفاءة المهنية. فمنذ التسعينيات، تحول القطاع العام الى أداة للمحاصصة الطائفية، حيث أصبح التوظيف وسيلة لتعزيز الولاءات، بدلا من تلبية حاجات المؤسسات. ففي العديد من الإدارات، يلاحظ وجود تكدس موظفين في أقسام لا تتطلب هذا العدد الكبير، بينما تعاني إدارات أخرى من نقص حاد في الكوادر، ما يؤدي إلى تعطيل العمل وتأخير تقديم الخدمات للمواطنين.
أرقام في كشوف الرواتب
يقول شادي وهو موظف في إحدى المديريات العامة: "لدينا نحو 40 موظفاً، لكن فعلياً العمل يقوم به خمسة فقط، البقية ينتظرون التعليمات أو يأتون لأداء الحد الأدنى من المهام الشكلية".
أما سحر وهي موظفة منذ 15 عاماً في إحدى الوزارات، فتتحدث عن روتينها اليومي في الوظيفة، "أحياناً أقضي النهار دون ان افعل شيئا، بينما أعلم أن زملائي في إدارة أخرى يعملون بأقل عدد ممكن لتغطية مهام كبيرة". وتتابع "حتى لو كنت بلا مهام حقيقية، لا يمكنني ترك الوظيفة وسط هذا الانهيار، فالوظيفة العامة أصبحت الملاذ الأخير للكثيرين، إذ لم يعد القطاع الخاص قادراً على دفع رواتب تكفي ثمن المعيشة مقابل ساعات طويلة من العمل، والهجرة صعبة لمن لديه عائلة".
بدورها، تشير عليا إلى أنها تشعر أحيانًا "أننا مجرد أرقام في كشوف الرواتب، هناك موظفون لم نر لهم أي إنتاج منذ سنوات، بينما نتحمل نحن العبء الأكبر"، مضيفة "المشهد محبط ويؤثر في الروح المعنوية، ويجعل المواطن يفقد الثقة بالدولة تماما، ونحن جميعا ضحايا نظام لا يعترف بالكفاءة."
عبء اقتصادي
يشار إلى أن البطالة المقنعة هي توظيف عدد من العمال أكبر مما هو مطلوب لأداء وظيفة معينة، أو تبني إجراءات عمل تبدو غير مجدية ومعقدة لتوظيف عدد إضافي من العمال، وهي مشكلة اقتصادية واجتماعية، تؤثر في الدخل والفرص التطويرية والرضا الوظيفي، وتنتج من عدة عوامل أبرزها:
- نقص فرص العمل الملائمة لمؤهلات الأفراد.
- ضعف النمو الاقتصادي الذي يقلص النشاط الوظيفي.
- صعوبة الحصول على وظائف بدوام كامل، توفر أجورا ومزايا مناسبة.
- عدم تطابق المهارات مع متطلبات سوق العمل، ما يدفع الأفراد إلى العمل في وظائف أقل من مستوى كفاءاتهم الحقيقية.
ويؤكد خبير اقتصادي فضل عدم الكشف عن اسمه، أن البطالة المقنعة "ليست مشكلة إدارية فحسب، بل عبء اقتصادي كبير"، مضيفاً "الدولة تدفع رواتب لآلاف الأشخاص من دون إنتاجية، في وقت تعاني فيه مؤسسات حيوية من نقص حاد في الكوادر"، مشدداً أن "الحل ليس في التسريح، بل في إعادة الهيكلة على أسس مهنية".
معاناة القطاع الخاص
يشار إلى أنه وفقاً لمجلس الخدمة المدنية، هناك حوالى 27 ألف وظيفة ملحوظة في الإدارة العامة، لكن عدد الوظائف المشغولة لا يتجاوز 7,900 وظيفة، في حين أن 19,900 وظيفة ما زالت شاغرة، أي بنسبة شغور تتجاوز 72%، وتصل في بعض الفئات إلى أكثر من 90%.
بدوره، يعاني القطاع الخاص من معضلة معاكسة، إذ يشكو أصحاب المؤسسات من نقص حاد في اليد العاملة المؤهلة بسبب هجرة الكفاءات، توضح سمر، وهي مديرة شركة تكنولوجية صغيرة في بيروت ، وتقول: "كل موظف مؤهل غادر لبنان، وتركنا نبحث عن موظف يمكن أن ينجز المهام المطلوبة"، مضيفة "كلما ندر موظف كفؤ، زاد راتبه، لكن المؤسسات الصغيرة لا تملك القدرة على المنافسة، والدولة لم تضع أي خطة لإعادة التوازن بين القطاعين العام والخاص".
وتشير بيانات البنك الدولي إلى أن عدد العاملين في القطاع العام يفوق 350 ألف موظف، أي حوالى ربع القوى العاملة الرسمية، نحو 40% منهم يعانون من بطالة مقنعة، أي يعملون في وظائف غير منتجة، في المقابل، يشهد القطاع الخاص تراجعاً كبيراً في عدد العاملين بنحو 30% منذ 2019، بسبب الأزمة الاقتصادية وهجرة الكفاءات.
فجوة بين المواطن والدولة
البطالة المقنعة ليست مجرد مشكلة إدارية عابرة، بل ظاهرة تحمل تداعيات خطرة تهدد كفاءة الدولة وفعاليتها، فهي تهدر المال العام بشكل واضح، إذ تدفع رواتب ضخمة لموظفين لا يقدمون أي إنتاج ملموس، فيما تظل الخدمات الأساسية للمواطنين متأخرة أو ضعيفة الجودة، بسبب غياب الكفاءات وانعدام الرقابة على الأداء. هذا الواقع يخلق إحباطًا مزدوجا لدى الموظفين المنتجين، الذين يشعرون باللاعدالة والمنافسة غير المتكافئة، ولدى المواطنين الذين يواجهون صعوبة في الحصول على حقوقهم، ويبدؤون بفقدان الثقة بالمؤسسات التي يفترض أن تحمي مصالحهم.
هذا الواقع يعمق فجوة بين المواطن والدولة، ويضعف أي جهود لإصلاح الإدارة العامة أو تعزيز المشاركة المجتمعية، ليصبح مؤشرا حقيقيا على هشاشة الدولة ومؤسساتها.
ويرى خبراء أن المعالجة لا تبدأ بتسريح الموظفين، بل عبر إعادة هيكلة القطاع العام بطريقة ذكية وشاملة، تشمل تقييما دوريا للأداء، ونقل الموظفين وفق حاجات الإدارات، واعتماد نظام إلكتروني موحد لتوزيع المهام ومتابعة الإنجاز، ووقف التوظيف السياسي والاعتماد على مسابقات شفافة عبر مجلس الخدمة المدنية.
كما يشدد الخبراء على أهمية تشجيع الشراكة مع القطاع الخاص لتبادل الكفاءات، وإطلاق برامج تدريب وتأهيل لتحديث مهارات الموظفين، بما يتوافق مع متطلبات العصر الرقمي، وربط سوق العمل بقطاعات حيوية عبر تطوير التعليم والتدريب المهني، ليتناسب مع احتياجات السوق، هذه الإجراءات من شأنها إعادة الحياة للإدارة العامة، وتحقيق العدالة الوظيفية، واستعادة ثقة المواطن بالدولة.
هيمنة المحاصصة والولاءات السياسية
في ختام هذا المشهد المؤسف، تبدو الإدارة العامة اللبنانية وكأنها تنتظر قراراً سياسياً يحدد مستقبلها. فالبطالة المقنعة ليست مجرد نقص في المهام أو فوضى تنظيمية، بل هي مرآة لخلل بنيوي أعمق في الدولة، حيث تغيب الرؤية الواضحة وتهيمن المحاصصة والولاءات السياسية على كل قرار إداري، فتجهض الكفاءة وتهدر الموارد العامة، بينما يبقى المواطن والموظف على حد سواء ضحية هذا الواقع.
وحتى إشعار آخر، سيستمر هذا الوضع في استنزاف المال العام وإضعاف الثقة بالمؤسسات، ما يجعل أي إصلاح حقيقي رهين إرادة سياسية صادقة وجادة، تعيد هيكلة القطاع العام على أسس الكفاءة والعدالة، بعيداً عن المحاصصة، وتضع لبنان على طريق استعادة فعالية إدارته العامة وقدرته على خدمة مواطنيه.
ربى أبو فاضل - الديار