هل فك الارتباط بالدولار أصبح حتميًا بالنسبة لدول الخليج؟ -- Sep 08 , 2025 21
أظهرت الاستجابة العالمية لاحتواء انتشار كوفيد-19 هشاشة سلاسل التوريد واعتمادنا الجماعي على تدفق التجارة. يبرر الاقتصاديون العولمة باعتبارها ظاهرة طبيعية تهدف إلى تعظيم كفاءة رأس المال واستغلال الموارد من خلال شبكة عالمية.
لقد سهلت العولمة الوصول إلى كل من رأس المال المالي والبشري عبر الاقتصادات العالمية، وخفضت الحواجز التجارية.
كما انخفض التضخم العالمي (المقاس بارتفاع مؤشر أسعار المستهلك) من أعلى مستوياته عند 12.4 بالمئة عام 1981 إلى مستويات أقل من 2.5 بالمئة خلال الفترة بين 2014 و2020. وتزامن ذلك مع تراجع كبير في نسبة الفقر العالمي بحسب بيانات البنك الدولي منذ 1981.
في أعقاب وباء كورونا، تعاظمت المصالح الأمنية الوطنية مع سعي الحكومات لتأمين الوصول المحلي للسلع والخدمات.
في دول الخليج، استحوذت القابضة (ADQ) على حصص مهمة في شركة لويس دريفوس، وهي شركة تجارية عالمية ومصنعة للسلع الزراعية، ولاحقًا تم الاستحواذ على شركة أرامكس، منصة الخدمات اللوجستية الإماراتية الداعمة للتجارة العالمية.
وبالمثل، أتمت الشركة السعودية للاستثمار الزراعي والإنتاج الحيواني سالك (SALIC)، المملوكة بالكامل لصندوق الاستثمارات العامة السعودي PIF، الاستحواذ على 35.4 بالمئة من شركة "أولام أجري" في أواخر 2023، مع خطط لرفع الحصة إلى 80 بالمئة هذا العام.
كانت اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي في الماضي تعتمد بشكل كبير على إنتاج وتصدير البتروكيماويات لتحقيق الاستدامة المالية.
وقد أدت استراتيجية ربط العملات المحلية في دول مجلس التعاون الخليجي بالدولار الأميركي، منذ عام 1972، إلى القضاء على حالة عدم اليقين التي كانت تخشاها الاستثمارات الأجنبية، وتبسيط الإنفاق المحلي ووضع الميزانية، مع استيراد السياسة النقدية الأميركية.
ورغم أن هذا القرار كان صحيحًا ومبررًا في سياقه التاريخي، إلا أنه يواجه تحديات في عصر يركز على الاستقلالية والأمن.
فقد انخفض الدولار بأكثر من 10 بالمئة مقابل سلة من عشر عملات متقدمة خلال النصف الأول من عام 2025.
سياسات الإدارة الأميركية المالية، وتأثيراتها غير المباشرة على قيمة الدولار، يتم استيرادها دون قصد إلى المنطقة، مما ينعكس على العملات المرتبطة به. قد يُعتبر هذا الانخفاض في القوة الشرائية مناورة محسوبة من الإدارة الأميركية لتعزيز الإنتاج الصناعي وتحقيق التوازن التجاري. لكن دول الخليج، التي تسعى لتنويع اقتصاداتها بعيدًا عن السلع الأساسية نحو اقتصاد خدمي، تواجه العواقب غير المقصودة لضعف العملة.
تصف معضلة سياسة "فليمنغ-مندل" كيف لا يمكن للدول أن تتمتع في الوقت نفسه بسعر صرف ثابت وحرية حركة رأس المال وسياسة نقدية مستقلة. بالنسبة لأعضاء دول مجلس التعاون الخليجي، فإن الاعتماد على قرارات بنك الاحتياطي الفيدرالي المتعلقة بأسعار الفائدة قصيرة الأجل يعني أن ضغوط التضخم الموحدة تنطبق على واشنطن العاصمة كما تنطبق على أبو ظبي التي تبعد أكثر من 7000 ميل.
خلال دورة رفع أسعار الفائدة الأميركية بين عامي 2022-2023، ارتفع سعر الفائدة الفيدرالي من 0.25 بالمئة إلى 5.50 بالمئة خلال 16 شهرًا. وخلال الفترة نفسها، أعلنت عُمان عن فائض مالي لأول مرة منذ 2013، واستمر لعامين متتاليين.
وسجلت أرامكو السعودية تدفقات نقدية تشغيلية حرة بلغت 186.2 مليار دولار و143.4 مليار دولار لعامي 2022 و2023 على التوالي. كما شهدت دبي رقمًا قياسيًا في عدد الزوار بلغ 17.15 مليون في 2023، بزيادة 19.4 بالمئة مقارنة بـ 2022، متجاوزة الرقم السابق في 2019 البالغ 16.73 مليون. وقد دفع الانضباط المالي والإصلاحات الاجتماعية وارتفاع أسعار السلع الأساسية اقتصادات الخليج إلى تحقيق زخم قوي.
ورغم هذه المكاسب، فإن البنوك المركزية الخليجية كانت مقيدة بموجب معضلة "فليمنغ-مندل"، ما أجبرها على اتباع سياسة نقدية متشددة تماشيًا مع الاحتياطي الفيدرالي الأميركي.
يأتي ذلك في وقت تتغير فيه النظرة إلى العولمة، وسط تصاعد التوترات العالمية والصراعات الإقليمية، إلى جانب صعود الحركات الشعبوية في العالم المتقدم. وأحداث عام 2025 وحده، بما في ذلك الاضطرابات في كوريا الجنوبية وتايلاند وهولندا، أدت إلى تقلبات غير متوقعة وتغييرات سياسية.
المستثمرون يبحثون عن اليقين، أي عن رؤية واضحة واستراتيجية مدروسة للتخفيف من المخاطر.
ورغم حالة عدم اليقين الجيوسياسية، مضت دول الخليج في إصلاحات تهدف إلى خلق مراكز مالية وملاذات آمنة للاستثمارات طويلة الأجل، على عكس الاتجاهات العالمية.
فقد أعادت الإمارات والسعودية تشكيل قوانين الهجرة بعد الجائحة لجذب واستبقاء المواهب. التركيبة السكانية المتعددة الثقافات والشابة، إلى جانب الجهود لإعادة صياغة الأطر القانونية والتنظيمية بما يتماشى مع أفضل الممارسات العالمية، تسرّع من نمو اقتصادات الخليج بوتيرة غير مسبوقة.
تعمل قطر على صياغة قوانين جديدة تتعلق بالإفلاس والشراكات بين القطاعين العام والخاص لجذب الاستثمار الأجنبي.
وأعلنت سلطنة عمان خططها لتطبيق ضريبة على الدخل الشخصي عام 2028، كأول دولة في المنطقة، لتنويع مصادر دخلها وتعزيز ميزانيتها، إلى جانب إطلاق "التأشيرة الذهبية" للمستثمرين ابتداءً من أغسطس 2025. أما السعودية فقد ألغت نظام الكفالة، وطبقت الحد الأدنى للأجور وأجرت إصلاحات على متطلبات تصاريح الخروج لجذب رأس المال البشري.
تمتلك دول الخليج أدوات قوية في مواجهة التضخم المدفوع بالسلع، نظرًا لكونها منتجة للنفط والغاز بتكاليف تنافسية، ما يشكل تحوطًا طبيعيًا. كما أن الأصول الضخمة التي تتجاوز 5 تريليونات دولار تحت إدارة الصناديق السيادية توفر دعمًا اجتماعيًا في بيئة تضخمية. ومع إعادة تشكيل التجارة العالمية وفرض رسوم جمركية متغيرة من جانب الولايات المتحدة، ستختلف أسعار السلع والخدمات بين المناطق والدول، ومن الطبيعي أن يؤدي ذلك إلى تباينات كبيرة في معدلات التضخم بين دول الخليج والولايات المتحدة، ما قد يستلزم مواقف نقدية أكثر ديناميكية من البنوك المركزية الخليجية، وهو ما يتعارض مع معضلة فليمنغ-مندل.
تُعد تجربة "سلطة النقد في هونغ كونغ" مثالًا على تطبيق سياسة نقدية ديناميكية مع الحفاظ على ربط العملة.
فبعد إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن "يوم التحرير" من واشنطن في أبريل الماضي، لجأ المستثمرون إلى بيع الدولار الأميركي مقابل الدولار الهونغ كونغي، ما وضع ضغطًا تصاعديًا على العملة المرتبطة واستدعى تدخلًا فوريًا من السلطة النقدية.
وبفضل احتياطياتها الأجنبية الضخمة التي تعادل نحو 114 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، تمكنت من زيادة عرض النقد المحلي للحفاظ على الربط، مما خلق فارقًا بين معدلات الإقراض المحلية (HIBOR) ومعدل التمويل المضمون لليلة واحدة (SOFR). وبحسب بحث صادر عن كبير الاقتصاديين في "أبولو جلوبال مانجمنت"، تورستن سلوك، فإن استمرار الفارق في أسعار الفائدة بين العملتين المرتبطتين والذي وصل إلى 400 نقطة أساس قد يُعزى إما إلى رغبة السلطات في هونغ كونغ في إبقاء أسعار الفائدة المحلية منخفضة لدعم الاقتصاد والسوق العقارية؛ أو يُفسر كإشارة سوقية حول استدامة الربط. والاحتمال الأخير أقل ترجيحًا بالنظر إلى وفرة الاحتياطيات وسجل الحفاظ على الربط منذ 1983.
ذكر جيروم باول، رئيس الفيدرالي الأميركي في كلمته الرئيسية في ندوة "جاكسون هول"، التحديات التي يواجهها صناع السياسات في التعامل مع التضخم الذي يظل عالقًا فوق هدف 2 بالمئة ويواصل الارتفاع، إلى جانب سوق عمل متأزم بسبب سياسات هجرة أكثر صرامة وضعف الطلب. وهذا ما يوازي حالة الركود التضخمي، حيث تسحب السياسة الاقتصادية في اتجاهات متعارضة وتُعقد مسار الفيدرالي في المدى القصير.
في هذا المشهد سريع التطور، ومع الطبيعة العالمية المتأصلة للخدمات المالية، يجب على صانعي السياسات النقدية في الخليج البدء في التفكير بخطواتهم القادمة، حيث تتسرب السياسات المالية الأجنبية إلى قراراتهم النقدية. فإذا كان ربط العملات بالدولار قد وفر الاستقرار في الماضي، فقد يكون اليوم هو "المرساة" التي قد تُبطئ صعود الخليج.
سكاي نيوز